ما تبقى من كيانية فلسطينية

الفلسطينيون أقوى من اللازم”—هكذا قلتُ للصديقة عميرة هَس خلال حديثنا عن حرب الإبادة والجرائم التي ترتكبها إسرائيل. لم أقصد بذلك ترديد أسطورة “الشعب الفلسطيني “، بل هو واقعٌ أثبته الزمن: الفلسطينيون يملكون قدرة لافتة على التكيّف، وعلى عدم انتظار الفرج، والسعي للبقاء بكل ما أوتوا من وسائل، حتى لو كانت بأظافرهم، في محاولة مستمرة لإعادة ترميم ما تبقى من حياة.
منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن أهداف الحرب هي القضاء على قدرات حركة حماس العسكرية والسلطوية، وأن “اليوم التالي” لن تكون فيه لا حماس ولا عباس. كما صرّح أن إسرائيل تعمل على تطوير قيادة فلسطينية بديلة لحكم غزة. والحقيقة أن إسرائيل، منذ عقود، لم تجد أمامها سوى خيارين: قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وقيادة حماس الإسلامية التي سيطرت على غزة منذ عام 2007.
على مدى عامٍ ونصف من حرب الإبادة، لا تزال إسرائيل تسعى لتحقيق هذا الهدف: تنصيب جهة فلسطينية مسؤولة تدير قطاع غزة. لكنّها فشلت في ذلك رغم الدعم الدولي لأهدافها. لم تحظَ فكرة عودة السلطة الفلسطينية لإدارة غزة بدعم جدي، إلا وفق شروط محددة. الولايات المتحدة والدول الأوروبية طالبت الرئيس محمود عباس بتجديد السلطة الفلسطينية، فاستجاب بإجراء تغييرات شكلية، لم تقنع أحدًا. وفي الوقت نفسه، عاد الحديث الدولي عن “حل الدولتين” دون أي خطوات فعلية، بل بات الخطاب الدولي يتحدث عن “مسار سياسي” كحلّ مستقبلي غامض.
أما عن ادعاء نتنياهو بأن إسرائيل يمكن أن تكون مسؤولة عن الأمن في غزة، فقد شكك به عدد من المحللين الإسرائيليين. في مقال لصحيفة هآرتس، أشار إلى لقاء جمع الرئيس الإسرائيلي السابق حاييم هرتسوغ ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر عام 1984، حيث قال لها إنه عندما عُيّن أول حاكم عسكري للضفة الغربية، سأل موشيه ديان: “ما هي السياسة؟” فأجابه: “أن يُولد العرب ويموتوا دون أن يروا مسؤولًا إسرائيليًا واحدًا”.
على مدى سنوات الاحتلال، فشل هرتسوغ ومن جاء بعده في إيجاد قيادة فلسطينية تخدم الرؤية الإسرائيلية. وحتى بعد “الانفصال” عن غزة عام 2005، بقيت إسرائيل تسيطر على القطاع بشكل أو بآخر، وظلت مسؤولة عن نواحٍ كثيرة من الحياة اليومية فيه.
اليوم، وبعد سنة ونصف من الإبادة، بات مؤكدًا ما كان معروفًا: نظرًا للطبيعة الديمغرافية لقطاع غزة واكتظاظه، لا تملك إسرائيل خيارًا سوى الاستمرار في تدميره، مع الإبقاء على هدفها المعلن: إسقاط حماس. وكما قال الصحافي يوسي ميلمان في هآرتس: “التدمير الكامل لحماس هو أيضًا التدمير الكامل لغزة”، وأضاف: “تدمير حماس يعني حربًا قد تمتد لعشر سنوات”.
ومع مرور الوقت، لا تزال خطوط التفاوض حول صفقة تبادل الأسرى غير واضحة. فهناك 59 مختطفًا إسرائيليًا في غزة من بينهم 21 على قيد الحياة، في مقابل مطالبات فلسطينية بالإفراج عن عدد كبير من الأسرى ووقف الحرب، وتحديد الجهة التي ستتولى الحكم في القطاع لاحقًا. حتى الآن، يرفض نتنياهو البحث في “اليوم التالي”، ويصرّ على استمرار الحرب، ويعوّل على الضغط العسكري كوسيلة وحيدة لاستعادة المختطفين.
رغم استمرار الحرب، من غير المرجّح أن تنجح إسرائيل في القضاء الكامل على حماس، حتى مع الطرح المصري المتمثل في تشكيل “لجنة إسناد مجتمعي” لإدارة غزة دون مشاركة حماس مباشرة. قد يكون هذا الطرح مقبولًا ضمنيًا لحماس، التي تشارك في المشاورات، وربما تقبل ببعض الأسماء المطروحة.
ومع ذلك، ترفض إسرائيل هذه الخطة، وأعلنت في 18 آذار/مارس 2025 استئناف العمليات العسكرية وفق خطة رئيس هيئة الأركان الجديد، إيال زامير، الذي جدّد تأكيده على تحقيق “أهداف الحرب”. أما حماس، فلا تزال متمسكة بشروطها، وأبرزها وقف إطلاق النار، رغم الوضع الإنساني الكارثي في غزة.
ورغم الإدانات الدولية الخجولة، وقرارات المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق مع نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت بارتكاب جرائم حرب، ورغم ضغط عائلات الأسرى الإسرائيليين، والخلافات الإسرائيلية الداخلية—منها قضايا مثل إقالة رئيس الشاباك، أو الجدل حول “الإصلاح القضائي”، أو قانون تجنيد الحريديم—إلا أن كل ذلك لم يؤثّر فعليًا على موقف نتنياهو، الذي لا يزال يجد دعمًا من إجماع صهيوني قومي واسع لاستمرار الحرب.
في ظل استمرار المفاوضات بشأن عدد الأسرى الإسرائيليين، والتي تُظهر حماس بعض المرونة إزاءها، يبقى المطلب الأساسي المطروح دوليًا هو عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، واستبدال حماس، وبدء عملية إعادة إعمار القطاع، التي يُقدَّر أنها ستكلّف عشرات المليارات من الدولارات.
لكن بقاء حماس في الحكم، بحسب الرواية الإسرائيلية، سيعني أنها ستستعيد قدراتها العسكرية، وربما تمدّ نفوذها إلى الضفة الغربية. ومع تعثّر جهود مصر، وتراجع رغبة الدول الأوروبية وبعض الدول العربية في تمويل غزة تحت حكم حماس، تزداد الصورة قتامة.
أما السلطة الفلسطينية، فتبقى في موقع العجز، غير قادرة على تجديد نفسها داخليًا، وتنتظر فقط ما يُملى عليها أمريكيًا وأوروبيًا. كل ذلك، في النهاية، لا يُخدم إلا هدفًا واحدًا: حماية أمن إسرائيل، على حساب أي شكل ممكن من أشكال الكيانية الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة.
في ظل هذا المشهد المعقّد، لا يبدو أن هناك إجابة واضحة عن سؤال “الكيانية الفلسطينية”. فالحرب لا تنتج سوى الخراب، والمبادرات الدولية مشروطة ومشوشة، والسلطة ضعيفة، وحماس محاصرة. وما بين الرفض الإسرائيلي لأي شريك فلسطيني حقيقي، والتواطؤ الدولي الصامت، تبقى الكيانية الفلسطينية رهينةً للحرب، بلا حامل سياسي موحد، وبلا أفق واضح… وكأن المطلوب أن يبقى الفلسطيني مجرد ناجٍ، لا مواطنًا له وطن.