الروائية لينا هويان لـ «عكاظ»: الكاتب يحتاج أذرع أخطبوط أخبار السعودية
• ما الذي يغريك بالاستمرار في الكتابة إلى اليوم والغد ربما؟
هل تحتاج الحياة لإغراءٍ! لنتنفس هواءها ونعيشها!؟ الكتابة هي حياتي، هي أنا، ملامحي، وعقلي، وقلبي. ماضيَّ وحاضري ومستقبلي. هي حريتي، واستمتاعي، ولعبي، الكلمات شرف الوجود البشري. تعلمتُ مبكرّاً من «بداوتي» أن (الكلمة شرف) ما أروع هذه العبارة،! كانت الحياة لا تُطاق دون الكلمات. كانت جدتي تترنم دائماً بأشعار تروي التغريبة الهلالية وكلما سألتها: «حبابة لماذا تحبين أبو زيد!؟» تجيبني: لأنّ كلمته، كلمة. كبرتُ وأنا أقدّس الكلمة، وجعلتها هوايتي ومهنتي ووجودي.
• هناك من يرى في المرأة شاعرةً أكثر من ساردة، بماذا تعلقين؟
فلنبدأ من شهرزاد، أهم ساردة عرفها العالم. أظنّه جواباً حاسماً يلغي سؤالك! لستُ نسوية، وعندما أكتبُ؛ أفكّرُ برأس امرأة فجر التاريخ. الأنثى التي تتسيد واجهات الصخر، وتعتمر قلنسوة حربية، وعباءة من حرير، وتحط الحمامة على كتفها، وتخنق بيدها وحشاً، وتحمل بيدها مفتاح النور الكوني.
•• لك ارتباط وثيق بالبادية؛ والرواية ابنة المدينة، كيف تخطيتِ تبعات هذا الحكم النسبي؟
المدن مخدوعة بمواهبها، وأكثر من ذلك المدن متبجحة. هنالك فرق بين النور والإنارة الاصطناعية، والحكايات مثل الفلزات التي توجد في أمكنة غير متوقعة. وأثمنها تلك القريبة من فوهات البراكين وأعماق البحار وفي مجاهل الصحاري.
• من أي مكان وزمان تنامت بذرة السرد؟
•• حياتي بحد ذاتها رواية، تشبه تجربة سينمائية لمخرج سوريالي. لعبتُ كطفلة على شاطئ البحر، وبين أعمدة منازل الشَّعر للبدو الغنّامة، ولعبت في الخنادق تحت الدبابات، ولعبت بين السواتر العسكرية، أي أكياس الأسمنت المحشوة بالتراب لتحمي الخنادق، وعشتُ في مكان لم يكن لي أصدقاء فيه غير الدراجة، والسلاحف، حيّات الماء وثعابين قنوات الري.. وعشتُ في شبابي المبكر سنواتي الجامعية، بحب كبير للمعرفة مع مرح وصخب في حياتي الشخصية. هذا هو (الحظ) أن لا تمنعك الحياة عن تذوّق نكهاتها اللذيذة. أمّا تجربتي برفقة البندقية والمنظار العسكري والموت، فقد رويتها في (الذئاب لا تَنسى).
• ما وجه الشبه بينك وبين الروائي الليبي إبراهيم الكوني؟
•• إبراهيم الكوني مبدع ولِدَ ليكتب الصحراء، إنه نجمها وكلماتها، وسطوتها، ومنذ أن كتبت عن الصحراء وهذه المقارنة الرائعة التي تسعدني مع الكوني، تحضر وتفرض السؤال. كل من كتب ويكتب عن الصحراء، سيجد أن إبراهيم الكوني هو، سلفاً، أستاذ له. استطاع الكوني أن يخصص صفحات طويلة عن السراب، ويكتب فصولاً عن وهج الشمس، إنه أديب مستغرق في الصحراء وحوّل تعامله معها إلى شاعرية مطلقة. لربما اختلفت كتابتي من حيث انحيازها للحكائية أكثر، عند الكوني لا أحد ينافس الصحراء، بينما نسائي، يحضرن أكثر، كمنافسات لقساوتها ومتحديّات لسطوتها. إضافة، إلى أنّي لم أكرّس كل ما كتبته للصحراء، فقد تنازعتني مدينتان؛ الشام بسحرها وحلب بتنوعها، وحديثاً عدتُ إلى عوالم الصحراء لكن من باب السحر والأسطورة.
• لماذا سردك يعتمد ثيمة السفر إلى الماضي؟
•• الحاضر السوري محزن ومؤلم ومربك ومثقل بالسياسة ومستنقعاتها وأفخاخها، وماضي سورية ثري ومدهش وأسطوري، فضُلت بناء عالمي في مكان عائم في فضائي الخاص، لا يطاله أحد، عالم لا تخربه الأحقاد والحروب، أرض أحرّك عليها السعالي والجنيات والسحرة، وأتمتم بتلك التعاويذ التي يخشاها البشر.
• هل تنتصرين بالكتابة لرموز غيّبها المؤرخون؟
•• الكتابة هي انتصار ساطع وواضح، التعامل مع الكلمة بحد ذاته، انتصار. إذا لم يمتلك الكاتب أذرع الأخطبوط من الصعب أن تتنوع كتاباته، والأصعب هو أن يستطيع انتقاء المكان والزمان والشخصيات التي يلزمها ضوء الكلمة. من مهام الكاتب مناورة التاريخ وكشف أسراره التي يحتفظ بها في الهوامش. تعامل الكاتب مع التاريخ هو معركة انتزاع.
• من (معشوقة الشمس)، مروراً بـ_مرآة الصحراء(، و(بنات نعش)، و(سلطانات الرمل)، و(رجال وقبائل)، إلى (حاكمة القلعتين)، أين الجوائز من أعمالك، أو أين أعمالك عن الجوائز ؟
•• نعمت بالترشح الدائم لأهم الجوائز العربية، اكتشفت مع الوقت أهمية أن يظل الاسم حاضراً، وفهمت جدوى أن يفكّر الكاتب بشيئين: أولاً كيف يحافظ على علاقته بالقارئ، أن يبقى مثاراً للفضول والتتبع، ثانياً: كيف تكون الكتابة هي الهدف والأمل، لتكون كاتباً حاضراً ومنتجاً كلّ عام، أثق بالكتابة الغزيرة، لأنها عنوان المصداقية والجديّة. بدأت الكتابة في عام ١٩٩٨، ومنذ عام ٢٠٠٩ وأنا أعيش حياتي ويومياتي للكتابة، مع ثمانية عشر مؤلفًا أدبيّاً. أيضاً أسافر وأزور معارض الكتب وألتقي القرّاء في حفلات التوقيع، وهذه اللقاءات بالذات جعلتني أكثر قرباً من القارئ، وأثرت خبرتي في النقد الذاتي.
• ما سر حضور الشعر كومضة ثم غيابه؟
فوضى القصيدة الحديثة مقبرة للشعر، هي أهم سبب ليشيح القارئ بنظره عن دواوين الشعر. كتبتُ محاولة شعرية نثرية في عام ٢٠١١ صدرت عن وزارة الثقافة السورية بعنوان (نمور صريحة)، لأنّي أنتقدُ نفسي، أخبرت نفسي أنّ ما كتبته هو أفكار أكثر منه شعراً! وعكفتُ على دراسة بحور الشعر العربي، وقراءة الشعر الجاهلي وما بعده، وأهم ما اطلعت عليه بتفرغ كامل (اللزوميات). فطنتُ لوهم المماثلة للغرب، ووهم حداثة مستوردة وقطيعة سلبية مع التراث الشعري العربي، برمّته!؟ لا تُكتب القصيدة دون ذاكرة. الشعر، تذكّر، وأفكار، منذ تلك اللحظة التي كُتبت فيها ملاحم الخلق، وتمّ تدوين التاريخ بالشعر، والشعر مدار فلكي لا يجوز تهشيمه ورميه على الرصيف فيغدو متاحاً لكل متسكع!؟ كيف لشعرور اليوم أن يتعالى على امرئ القيس وطرفة والنابغة والمتنبي وأبو نواس وأبو العلاء!؟
• متى تشعرين بالغبن؟
•• الغبن شعور يرافق عديمي المواهب. الإبداع لا يكون حالة عابرة تنتظر الترحيب والإطراء، إنما هو جهد ومثابرة ووضوح في الرؤية وحياة يومية منظمة، من يختار قدره لا يتعرّف على الغبن وأشقائه.
• هل يحتاج الكاتب للحظ مجاوراً للموهبة ليحظى بالقبول والتكريم؟
•• الحظ يوصلك مرةّ، والجديّة توصلك دائماً. والحظ أو المجاملات والمحسوبيات لن تنقذ النص المتواضع من سلّة المهملات. الطرقات السالكة مريبة، والأذرع المفتوحة المرحبة بأعمال الكاتب في وقت مبكر من تجربته الأدبية تنهي التجربة والأمثلة كثيرة، لا أدب دون تجربة. نكتبُ في عمر الشباب بسبب الموهبة لكن بعد الأربعين نكتب بإلهام التجربة. أهم أسباب شحوب معظم النصوص الروائية العربية، افتقاد كاتبها للتجربة، وما أدراك ما التجربة!.
• ماذا قدمت لسورية، وماذا قدّمت لك؟
•• أنا سورية، أنا هواؤها، أنا خارطتها، سورية أرض القلاع والحصون، وأربع مدن سورية صنّفت من قبل اليونيسكو ضمن قائمة أقدم عشر مدن مأهولة في التاريخ، سورية بعل حداد وعشتاروت وجوليا دومنا وكركلا، ولوقيانوس السميساطي، وأذينة وزنوبيا وفيليب العربي وستة من أباطرة روما والمتنبي وأبو العلاء المعرّي وصلاح الدين وأسامة بن منقذ.. على سبيل المثال لا الحصر، باختصار، اخترتُ الجانب المشرق (سوريتي).
• أين تجدين نفسك اليوم من هذا العالم الافتراضي؟
•• العالم منذ وجد هو افتراضي، ومتغير، ومباغت، لكن الفرق أنّه اليوم: استهلاكي، تريندينغ للحمقى الذين حذّر منهم امبرتو إيكو قبل سنوات من الآن، اليوم هنالك مشاهير وليس هناك نجوم. المشهور اليوم، منسيّ غداً..
ثمة حالة تسوّل للاهتمام ولفت الأنظار مهما كان الثمن، يشترون متابعين وهميين و(لايكات) كاذبة، هل هناك ما هو مثير للشفقة أكثر من هذا!؟ لأنّي أثق بعبارة «أين تضع نفسك تجدها» فأنا في مكاني الذي وجدته حالما حددت هدفي في الحياة منذ كان عمري ثلاثاً وعشرين سنة وقررتُ أن أكتب.
• أي زمن تخشين أو خشيت العيش فيه؟
•• أخشى الحروب وفوضاها، أينما كانت، لهذا غادرت سورية، جسداً وليس روحاً، فأنا عالقة في مصيدة الانتماء الجميلة. نبتت أجنحتي هناك، ولا تحفظ مساراً للطيران إلّا صوب مكان بعينه. اكتشفتُ مع مرور الوقت، فتنة أن تحمل ذاكرتك وأحلامك شيفرةً موروثة، تماثل الشيفرة التي عند الطيور والأسماك وهي تعثر على دربها اللامرئي وتعبر صوبه آلاف الكيلومترات دون أن تكون قد ولدت فيه!؟ نحن البشر كذلك، لكن هنالك من لا ينتبه وهنالك من ينتبه.
• هل النقد، عربياً، محايد؟
•• الحياد وهم، كل كوكب الأرض لا يعرف الحياد، ومن الطبيعي ألّا يشذّ النقد عن القاعدة. اليوم نحتاج النقد والناقد أكثر من أيّ وقت مضى، ولكن بلغة معاصرة ورشيقة، قبل أن يغدو النقد الانطباعي لأفراد افتراضيين، هو معيار الأعمال الأدبية. ومكان النقّاد الصحيح هو في لجان التحكيم. ولا أرى أن الروائي محكّم نزيه. الناقد أكثر منطقية ولا مصالح له في إزاحة نصّ جيد وإشهار نصّ رديء!
• بماذا تصفين علاقتك بالمُدن؟
•• غرامية، حبّ أو لا حبّ، أحببتُ بيروت فمكثت بها، وإذا وقعت في غرام مدينة أخرى سأعيشُ فيها.
• ألا توافقين على أن حضورك في (الفيسبوك) و(تويتر) تأملي فقط؟
•• هذا ما يسمح به وقتي. السوشيال ميديا فخ خبيث للوقت. التأمل هو أهم طريقة تواصلية عرفتها البشرية، تواصل صامت، منصت.
• ما انطباعك عن الثقافة والأدب السعودي، ولمن تقرأين؟
•• أول عمل قرأته قبل سنوات طويلة رواية (خاتم) أتذكر أني قرأتها يوم صدرت ضمن مشروع كتاب في جريدة، يومها كنت أشرف على ملحق الكتب في صحيفة الثورة الرسمية في سوريا، وكان يفترض أن أحرر مقالة عن سلسلة (كتاب في جريدة) وسرعان ما غرقت بين كلمات رجاء عالم وتعرّفتُ على عوالمها الخاصة. وبعدها بسنوات قرأت رواية (صوفيا) لمحمد حسن علوان الذي توج إبداعه برائعته (موت صغير)، وأنتظر دائماً جديد أميمة الخميس وبدرية البشر، ويوسف المحيميد، وعبده خال وآخرين.. الأدب السعودي متنوع وأتوقع أن نشهد مستقبلاً المزيد من النتاج الإبداعي في عالم الكلمة السعودية، نتيجة التغييرات التنويرية التي أضاءت سماء المملكة.
• لمن تقولين «شكراً»، ولمن تقولين «سامحك الله»؟
•• الشكر طبعي وسجيتي، والمسامحة أفهمها كشكل من اللامبالاة والتجاهل، وهذا دأبي مع ما لا يروق لي، أو يزعجني.