اخبار السعودية

الكاتب علي حسين: الصحافة الورقية لن تندثر أخبار السعودية

الكاتب العراقي والصحفي علي حسين صاحب مؤلفات عديدة يحبها القارئ، ارتبط في شبكات التواصل الاجتماعي بالكتب، فلا تكاد تقرأ له منشوراً أو تغريدة إلا وفيها كتاب أو كاتب! يرى في حواره مع «عكاظ» أنه محظوظ، لأنه ولد وفي بيتهم مكتبة، كما أنه معجب بـ«طه حسين» الذي تعرّف من خلاله على التراث الحقيقي، وله رأي مختلف في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يرى أنها ساهمت في الترويج للكتاب، ولكن لدينا مشكلة حقيقية تواجهها صناعة الكتاب وهي قرصنة الكتب من دون موافقة دور النشر أو المؤلفين! التقى بالعديد من الكُتَّاب العرب وكانت له معهم مواقف لا تنسى، الحوار معه متشعب في الكتب والفلسفة والصحافة وفي السعودية الجديدة.. فإلى نصّ الحوار:

• حدثنا، ابتداءً، عن «علي حسين» الطفل والإنسان والمثقف.

•• ربما كنت محظوظاً، كانت هناك مكتبة في بيتنا تحوي كتباً غلب عليها طابع التراث، وأيضاً كان عدد من أقاربي يمتهنون مهنة بيع الكتب سمحوا لهذا الصبي أن يبحث بين الأرفف عن كتب ملونة تسحره بمعلوماتها العربية، ولدت في بغداد، في منطقة تعد مركز بغداد التجاري، شارع السعدون الذي كان شارعاً للمكتبات، على جانبيه افتتحت أشهر مكتبات بغداد الأهلية منذ أربعينيات القرن الماضي، واشتهر الشارع، أيضاً، بأنه مركز لدور السينما، فاجتمعت عندي من الصغر هواية القراءة ومشاهدة السينما وعوالمها السحرية. في صباي كنت أعتقد أنني أستطيع الحصول على أي كتاب، لأن أحد أقاربي كان يمتلك مكتبة يبيع فيها أحدث الإصدارات، وكانت هذه المكتبة لا تبعد عن بيتنا سوى عشرات الأمتار، ووجدت في قريبي صاحب المكتبة محفزاً على اختيار كتب تناسب سني آنذاك. وأتذكر أنني تعلقت في صغري بسلسلة كتب ملونة كانت تقدم مختصرات مصورة لروائع الأدب، فقرأت من خلالها رواية جول فيرن «من الأرض إلى السماء»، وحكاية حصان طروادة، و«أوليفر تويست» لديكنز، وكتباً كثيرة لا أتذكرها الآن، إلا أنّ الكتاب الذي سيظل عالقاً في ذهني وقرأته وأنا في عمر صغير كان رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وكانت المرة الأولى التي أقرأ فيها رواية كاملة، استهوتني شخصية الفتى محسن بطل الرواية ووجدت فيها نفسي، لم تكن والدتي متعلمة، كان والدي يحب كتب التراث، ويطلب مني أن أترك قراءة الروايات، وأقرأ الكتب التي تنفعني، فأعطاني ذات يوم كتاباً صغيراً عن «أبي العلاء المعري» لكنّ الكتاب لم يستهوني، كان للتراث أعلى درجات التقدير والاهتمام في بيتنا. عندما بلغت الـ13 من عمري سأعثر على التراث الحقيقي في كتب طه حسين، كنت في الصف الأول متوسط عندما أعطاني أستاذي، الفنان التشكيلي الراحل شاكر حسن آل سعيد، نسخة من الجزء الأول من كتاب «الأيام»، وكان هذا أول تعرفي على طه حسين الذي لم أترك عملاً صدر له دون أن أقتنيه، لقد فتح لي عميد الأدب عوالمَ وآفاقاً ما أزال أكتشفها. في تلك الأيام كنت مفتوناً بعدد من الكتّاب، أراهم دائماً يرسمون في مخيلتي عالماً من الشخوص والنماذج الملهمة.. لذا كنت أحرص على قراءة كل سطر من سطورهم.. سعدت بالساحر توفيق الحكيم الذي أدخل البهجة إلى حياتي وأنا أتابع مصائر أبطاله وأفراحهم وأحزانهم، وتعلمت من كتب طه حسين كيف أقرأ الأدب وكيف أفهمه وكيف أتذوقه، وطه حسين مثل سقراط يبحث مع قارئه ويناقشه ويسعى لسحق الأفكار القديمة، ثم يأخذك معه في رحلة استكشاف للأدب العربي؛ قديمه وحديثه، وقد كان لكتابات طه حسين الفضل الأول بأن أخذت بيدي لتُدخلني عالماً عجيباً مدهشاً اسمه الكتاب.

كانت تنتابني رغبة في أن أصبح مثل صاحب الأيام، حتى أنني في ذلك العمر ارتديت نظارة سوداء كنت أعتقد أنها ستقربني من صورة عميد الأدب.

عن طريق سلامة موسى تعرفت على أسماء كانت مجهولة بالنسبة لي؛ برنارد شو، دستويفيسكي، داروين، نيتشه. وأتذكر أنني أعدت قراءة كتاب سلامة موسى ثلاث مرات متتالية في أسبوع واحد، وكأنني أريد أن أحفظ جميع صفحاته.

بعد سنوات اكتشفت المسرح من خلال مشاهدتي لعروض مسرحية كانت تقدم على مسارح بغداد، وهو الأمر الذي دفعني لقراءة نصوص مسرحية عالمية وعربية، بعد ذلك درست المسرح وتخصصت في النقد المسرحي؛ حيث بدأت الصحافة من خلال مقالات عن المسرح كتبت عن العروض المسرحية، وأيضاً دراسات عن أعلام المسرح العربي مثل يوسف إدريس وألفريد فرج ويوسف العاني وعادل كاظم وسعد الله ونوس، وقد صدر لي كتاب بعنوان «يوسف العاني والمسرحية الحديثة في العراق»، وكتاب آخر عن «أساليب الإخراج في المسرحية العراقية»، وعملت مديراً لتحرير مجلة السينما والمسرح التي كانت تصدرها وزارة الثقافة وقد توقفت بعد 2003، كما كتبت العديد من المسرحيات قُدّمت على مسرح الرشيد والمسرح الوطني وقاعة منتدى المسرح وأخرجها عدد من الأساتذة منهم سامي عبد الحميد وحيدر منعثر وشفيق المهدي ومحسن العلي.

• كيف ترى الصحافة العربية اليوم؟

•• الصحافة العربية بين مدٍّ وجزر، في العراق هناك الكثير من المعاناة بسبب غياب الإعلان التجاري الذي يشكل دعماً للصحافة الورقية، لكن بالتأكيد هناك صحف تقدم محتوى جيداً ويتابعها القراء. في السعودية هناك دعم حقيقي للصحافة الورقية والأمر أيضاً في الإمارات وبعض بلدان الخليج التي لا تزال الصحف الورقية تشكل حضوراً، لكن للأسف غابت الصحافة الثقافية وخصوصاً المجلات التي كانت تشكل جزءاً من المشهد الثقافي العربي.. لا ننسى أنّ مواقع التواصل الاجتماعي لعبت دوراً في تراجع الإقبال على الصحافة الورقية.

• شبكات التواصل الاجتماعي، هل قلّلت من قيمة الْكِتاب والقراءة؟

•• البعض يرى أن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في تراجع الطلب على الكتاب الورقي.. لكنني أرى العكس، فمواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في الترويج للكتاب، لكن المشكلة الحقيقية التي تواجهها صناعة الكتاب هي القرصنة ونشر الكتب (بي دي إف) من دون موافقة دور النشر أو المؤلف، وهذا يشكل سرقة علنية، ولهذا أتمنى أن تصدر تشريعات تمنع قرصنة الكتب، فأنت ترى اليوم ما إن يصدر الكتاب حتى تتم قرصنته ونشره. واسمح لي أن أشيد بالنهضة التي تشهدها صناعة الكتاب في السعودية في السنوات الأخيرة، مئات الكتب التي تصدر في مختلف فروع المعرفة، ودور نشر تتابع أحدث الإصدارات العالمية، والأهم أنّ هذه الدور سدت فجوة كنا نعاني منها في ما يتعلق بالجديد في مجالي الفلسفة والعلوم.

• ما الذي اختلف عليك ككاتب ومثقف بين عراق اليوم وعراق الأمس؟

•• الكاتب العراقي اليوم يتمتع بالحرية التي تسمح له في الخوض بموضوعات كانت ممنوعة من قبل، بالنسبة لي أنا أهتم بموضوع القراءة وقد ساعدتني مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تكن موجودة في العراق قبل 2003 على الانتشار والتعرف على جمهور من القراء من مختلف البلدان العربية.

فيما يتعلق بالأوضاع السياسية؛ الكاتب العراقي عانى خلال العشرين عاماً الماضية مثلما عانى خلال العقود الماضية من غياب الدعم الرسمي لمشروعه الثقافي، فنجد الكثير من الكتاب للأسف ينشرون كتبهم على حسابهم الخاص.

• تشغلك القراءة كثيراً، ولك في هذا الباب كتب ومؤلفات، منها (في صحبة الكتب، غوايات القراءة، كتب ملعونة)، حدثنا عن علاقتك بالكتب، كيف بدأت وتطورت؟

•• علاقتي بالكتب ابتدأت منذ الصغر، واستمرت معي حتى هذه اللحظة، وعشقي للكتاب دفعني لأن أحاول بث هذا العشق للآخرين.. ما زلت أحفظ ما كان يقوله الروائي الفرنسي ستندال لرفاقه «إن الكتب هي التي تجعله يحب الحياة»، أما سارتر فقد وصف هذه الحالة في يومياته بقوله: «كان يبدو لنا طبيعياً أن تنمو الكتب كما تنمو الأشجار في حديقة. لقد استغرقت الكتب حياتي كلها، نعم إنّ فعل القراءة ربما يحسب بالسنين، لكن رفقة الكتاب هي رفقة عمر كامل، هذا هو حالي مع الكتب، وهو الحال الذي حاولت أن أقدمه للقراء في معظم كتبي التي نشرتها، فهي كتب تشجع على فعل القراءة، كما أنها أشبه بخلاصة لتجربتي مع الكتب».

• ماذا عن مؤلفاتك الأقرب إليك؟

•• كل كتبي قريبة إلى نفسي، لكن يبقى كتابي «في صحبة الكتب» هو الأقرب؛ لأنه كان أول تجربة أخوضها في الكتابة عن الكتب، وكانت تجربة لذيذة ونافعة بالنسبة لي، فقد ساهمت في تنمية مهاراتي في الكتابة، ودفعتني لإصدار كتب أخرى.

• الكتابة الصحفية في ظلّ وجود شبكات تواصل جديدة هل ما زالت مجدية؟•• لا تزال الكتابة في الصحافة لها قراء يبحثون عنها، لكن بالتأكيد النشر في مواقع التواصل الاجتماعي أصبح أكثر حيوية، لأنها تمنح الكاتب حرية في اختيار موضوعاته التي تصل إلى آلاف القراء.. بالتأكيد أنّ الصحافة الورقية لن تندثر، لكنها تحتاج إلى أن تتطور أكثر لكي تستمر بالبقاء، الآن الصحافة مطلوب منها أن تتخلى عن الخبر وتهتم بالمقالة الصحفية والتحليل الصحفي وأن تعطي مساحة أكبر للثقافة.. للأسف معظم الصحف تنشر صفحات ثقافية يتيمة، لكنها بالمقابل تخصص صفحات للرياضة والمنوعات، سيقول البعض إنها رغبات القراء وهذا صحيح، لكن علينا أن نلاحق هذا القارئ بأن نقدم له كل ما هو جديد في الثقافة والفكر.

• من هو المثقف من وجهة نظرك؟

•• هذا سؤال يطرح كل يوم، المثقف من وجهة نظري الشخصية ليس مجرد معبر عن قراءاته أو معارفه الثقافية، وليس ممثلاً لجهة معينة، المثقف من يبلور خطاباً ثقافياً مؤثراً وجديداً، ولا يقتصر دوره على تقديم إجابات على أسئلة وإنما المساهمة في تغيير الواقع.. دائماً ما أشير إلى الفيلسوف الفرنسي سارتر كنموذج للمثقف الذي يملك تأثيراً واضحاً على القراء وكيف بإمكانه صناعة الرأي العام، ولعل الأساس الحقيقي لتطور الأمم يكمن في الدور الذي يلعبه المثقف في المجتمع، ولهذا نجد المفكر الإيطالي «غرامشي» يوسع مفهوم المثقف بحيث يدخل فيه كل من يقوم بدور إداري أو تنظيمي أو تربوي.

أن تكون مثقفاً حقيقياً مطلوب منك أن تنخرط في القضايا العامة، وأن تساهم في عملية التغيير. في تاريخ الفكر البشري نجد أنّ ولادة المثقف الجديد في أوروبا ارتبطت بالدعوة إلى التنوير، وإنشاء الجامعات، وظهور الإيديولوجيات، وكذلك، كما يقول جيرار ليكلرك في كتابه (سوسيولوجيا المثقفين) بعلمنة المجتمع، بالسياسة، بالثقافة… يُربط المثقفون بالحداثة؛ أي بالتعددية، بحرية الأفكار، وبظهور الطباعة في نهاية القرن الثامن عشر، بالثورة الفرنسية، وبما يُعرف اليوم بحقوق الإنسان. في هذا المنعطف من التاريخ الذي شهد في أوروبا نهاية عصر الإقطاع وبزوغ الرأسمالية أطلَّ هذا المثقف، المتسائل، الناقد، المتمرد، أما في البلاد العربية فارتبطت ولادة المثقفين بمحاربة الاستعمار، وانتشار فكر النهضة الذي ساهم في زعزعة التقاليد الفكرية والمناهج القديمة بأطروحات صادمة كانت إلى حد بعيد صدى لفكر التنوير الغربي ذاته، ولهذا أنا أميل إلى المثقف الذي أسميه «الفاعل الاجتماعي» الذي يطرح أفكاراً ورؤى للحوار، ويكون مستعداً لتغييرها إذا ما اقتنع بوجهة النظر الأخرى. والمثقف هو الذي بإمكانه أن يرى أبعد وأعمق من المتعلم المتعصب، فهو الأقدر على اكتشاف الخلل، وعلى إنضاج تصوراته بشأن الحاضر والمستقبل. ويمتلك الجرأة في أن يعترف بخطئه إن أخطأ، وأن يقول «لا» كلما وجد أنّ ذلك في مصلحة المجتمع. يضع لنا أدوارد سعيد تعريفاً مهماً للمثقف ودوره عندما كتب: «يؤلف المثقفون الحقيقيون طبقة مثقفة، ممن هم حقاً مخلوقات نادرة جداً، لأن ما يدعمونه ويدافعون عنه، وهي المعايير الأزلية للحق والعدل».

المثقف لا يمكن تكوينه إلّا بأن يكون مثقفاً يستخدم ثقافته في حياته اليومية.

• أنت كاتب مسرحي في الأصل، لماذا ابتعدت عن الكتابة في المسرح وعنه؟

•• لم أبتعد عن المسرح لكن ظروف المسرح تغيرت، انحسار المسارح في بغداد، تحول مفهوم المسرح عند الجمهور من منصة للوعي إلى خشبة للترفيه، طبعاً أنا لست ضد الترفيه، لكن مع الترفيه الذي يقدم محتوى يهمّ الناس مثلما كنا نشاهد ذلك في عروض الفرقة القومية أو فرقة المسرح الفني الحديث. ربما لو توفرت ظروف أفضل ممكن أخوض تجربة مسرحية جديدة مع زميلي في رحلة المسرح الفنان حيدر منعثر؛ الذي قدمت معه أعمالاً لا تزال حاضرة في ذاكرة المسرح العراقي. لدي أكثر من نص مسرحي جديد، لكنني كما قلت أنتظر الظرف المناسب لتقديمه وأيضاً توفير وسائل إنتاج جديدة، ربما أعود للكتابة للتلفزيون، لدي مشروع لتقديم رواية الراحل فؤاد التكرلي «المسرات والأوجاع» كعمل تلفزيوني حيث كتبت عدداً من الحلقات.

• حدثنا عن المكتبات في العراق، كيف كانت، وكيف أصبحت؟

•• جميعنا يردد المقولة الشهيرة «مصر تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ» فقد ارتبطت بغداد بالمكتبات، فحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان «شارع السعدون» يسمى شارع المكتبات؛ حيث افتتحت فيه أقدم المكتبات وهي مكتبة المثنى التي أسسها الراحل قاسم محمد الرجب، وكانت تضم صالوناً أدبياً يحضره مصطفى جواد وعلي الوردي وجواد علي وطه باقر ومجموعة كبيرة من أعلام الثقافة، وقد أصدرت المكتبة مجلة بعنوان «المكتبة». وبعد المثنى افتتحت العديد من المكتبات؛ ومنها مكتبات تخصصت في الكتب الأجنبية مثل مكتبة «كورونيت» أو مكتبة الصداقة التي كانت تستورد الكتب التي تصدر في الاتحاد السوفيتي حصراً، وهناك مكتبة النهضة والتحرير والسعدون واليقظة والأورفه لي، وفي شارع المتنبي كانت المكتبة الأهلية والمكتبة العصرية، للأسف هذه المكتبات فقدت بريقها بعد 2003، وتحول شارع السعدون إلى شارع تجاري هجين، وغابت أكثر المكتبات للأسف، واليوم انحصرت المكتبات في شارع المتنبي فقط، ومع هذا فإن حركة بيع الكتاب في العراق جيدة والقارئ العراقي يبحث دائماً عن الجديد، وشارع المتنبي يشهد إقبالاً كبيراً، وخصوصاً أيام الجمعة، كما أن تجربة الشارع انتقلت إلى البصرة والموصل وعدد من المدن العراقية.. في المقابل تأسست دور نشر عراقية كثيرة في السنوات الأخيرة وهي اليوم تعد من أبرز دور النشر العربية مثل دار المدى والجمل والرافدين وغيرها.

• التقيتَ بالكثير من الأدباء والمثقفين العرب.. ما الذي بقي في ذاكرتك عن الراحلين منهم؟

•• عملي في المكتبة ثم الصحافة كانا السبب في أن ألتقي بالكثير من الأدباء والمثقفين العرب، أتذكر أنني شاهدت الروائي والكاتب الأردني غالب هلسا أول مرة في مجلة الثقافة التي كنت أعمل فيها، وأجريت معه حواراً مطولاً عن الأدب الحديث والوجودية، وعن رواياته، نشرته، آنذاك، في مجلة الثقافة، قال لي آنذاك جملة ما زلت أحفظها: «من أجل أن تكتب بشكل جيد عليك أن تتجنب صراعات الحياة الصغيرة البائسة»، وفي المكتبة تعرفت على عبدالرحمن منيف الذي كنت قبل أن ألتقي به قد قرأت له الأشجار واغتيال مرزوق، وشرق المتوسط.. دخل إلى المكتبة ذات يوم برفقة الناقد العراقي ماجد السامرائي، ما زلت أتذكر اللقاء الأول، وكان منيف يبحث عن بعض الكتب، ثم أصبح زبوناً دائماً يمر بين فترة وأخرى، كان شخصية شديدة الخصوصية والحميمية، في الوقت نفسه، ولفرط خصوصيته تكاد تشعر أنك لم تره من قبل نظراً لفرادته، ولفرط حميميته تكاد توقن أنه أحد أقاربك.. والسر في هذه الازدواجية أن شخصية عبدالرحمن منيف كانت بالنسبة لقارئ مبتدئ، مثلي آنذاك، شخصية محببة إلى النفس، وبسيطة، أتذكر أنه قال لي وأنا أردد مثل الببغاء أمامه عناوين الكتب التي قرأتها: «حاول أن تجعل من القراءة واقعاً تعيشه، الكتب كثيرة» وأشار إلى رفوف المكتبة، ثم أضاف: «ضع قائمة خاصة بقراءاتك، لا تقرأ من أجل المتعة فقط رغم أهميتها، اقرأ من أجل أن تعيش أكثر من حياة»، قلت له أنا قرأت الأشجار واغتيال مرزوق، وأعتبرها رواية لا تقل في أهميتها عن رواية كازنتزاكي «زوربا»، قال لي وهو يبتسم: هل تعرف أن الكتب تنافس بعضها البعض، والجيدة منها فقط تدخل في سباق مع القارئ، ثم أكمل: أستطيع أن أزعم أنني قارئ جيد، وأنّ القراءة بالنسبة لي متعة.

ارتبطت، أيضاً، بعلاقة مع جبرا إبراهيم جبرا وكان من الزبائن المهمين للمكتبة وقد شغفت بترجماته لشكسبير، وعندما كتبت مسرحيتي (كأس) التي استوحيت شخصياتها من هاملت شكسبير، عرضتها عليه قبل أن تقدم على خشبة المسرح واستمعت إلى ملاحظاته، ولي حكايات كثيرة معه سجلتها في كتاب سيصدر لي بعنوان «حضرة المحترم» تحدثت فيه عن علاقتي ببعض الكتاب العراقيين والعرب، وحواراتي معهم، ومنهم فؤاد التكرلي، وعبدالرحمن منيف، وغائب طعمة فرمان، وجبرا إبراهيم جبرا، وحسب الشيخ جعفر، وعلي جواد الطاهر، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وغالب هلسا، والمفكر المصري أحمد عباس صالح؛ صاحب كتاب اليمين واليسار في الإسلام، وقد عمل في العراق لسنوات، ولقاءاتي مع المخرج الشهير توفيق صالح، وشخصيات كثيرة التقيتها وحاورتها أثناء عملي في المكتبة، أو أثناء ممارستي للصحافة.

• نراك في أحايين كثيرة بين أكوام من الكتب، ويتبادر إلينا السؤال ذاته الذي طرح على جبرا إبراهيم جبرا: هل قرأت كلّ هذه الكتب؟

•• الكثير من المتابعين لصفحتي في الفيسبوك يسألونني وهم يشاهدون أكوام الكتب تحيط بي: هل قرأت كل هذه الكتب؟، وتكون إجابتي التي تعلمتها ذات يوم من الراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا عندما سألته نفس السؤال وأنا أشاهد مكتبته الخاصة وكانت تضم آلاف العناوين، قال لي آنذاك: لقد اطلعت عليها كلها.. لم يكن الكتاب بالنسبة لي سوى ضرب من العشق وأتذكر مقولة فرنسيس بيكون الشهيرة «بعض الكتب وجد لكيما يذاق، وبعضها لكيما يبتلع، والبعض القليل لكيما يمضغ ويهضم» قال لي الراحل جبرا ذات يوم إنّ الروائي الإنجليزي د.ه. لورنس عندما دخل يوماً إلى مكتبة أكسفورد وجد أنها تحوي مئة ألف كتاب، وفي ثلاث سنوات من الدراسة تعرف عليها جميعاً هذا التعرف بمفهوم جبرا هو أساس الكثير من المعرفة، وهو الذي يدل القارئ إلى الاتجاه الذي عليه أن يسير فيه لطلب المزيد من المعرفة. لنا أن نتذوق الكتاب أو نبتلع بعضه أو نمضغه ونهضمه ببطء في كل الأحوال، نحن نعيش حالة عشق لا تملها النفس.

في الفصل الأخير من من كتابه «اعترافات روائي ناشئ»، الذي عنوانه «كتب.. كتب.. كتب» يحدثنا امبرتو إيكو عن الكتب قائلا: هناك في العالم كتب أكثر من الساعات التي يمكن تخصيصها للقراءة. نحن بالتالي نشعر بتأثير عميق للكتب التي لم نقرأها، التي لم يتوفر لنا الوقت لقراءتها.. يتعيّن عليّ أن أعترف بأنني لم أقرأ (الحرب والسلم) إلا حين بلغت الأربعين من عمري، لكنني كنت أعرف سلفاً مجريات الرواية الأساسية. هكذا نستطيع أن نرى بأن العالم مليء بالكتب التي لم نقرأها، لكننا نعرف جيداً محتوياتها. وعندما نلتقط الكتاب أخيراً، نكتشف أنه مألوف.. كيف يحدث ذلك؟.

يكتب جبرا في مقال بعنوان (عشق من نوع آخر): «كانت تراودني فكرة أشبه بالحلم فكرت في كتابتها منذ أكثر من أربعين سنة، وهي عن رجل كان يعشق الكتب اشترى بقعة نائية على كتف عال لتلة صخرية، مشرفة على واد كثير التعاريج والشعاب، وبنى عليها فندقاً جميلاً يجتذب الناس الذين يريدون الاختلاء بالطبيعة البعيدة عن ضوضاء المدن طلباً للتعمق في ذواتهم، مقابل أجور معقولة وكان ذلك جزءاً من خطة وضعها لنفسه. فهو ينفق معظم ربحه في كتب يشتريها بالمئات. وفي بضع سنوات تجمع لديه من المال ما يكفيه أخيراً لأن يحول الفندق إلى صوامع، رتب فيها الكتب على رفوف لا تنتهي وجعلها داراً مفتوحة لكل من يريد أن يقرأ ويكتب، شريطة أن ينتهي ما يكتب إلى مؤلفٍ يزيد من حس الإنسان بروعة الوجود». لهذا سأظل دائماً أردد أنّ الكتب علمتني العيش بكثافة أكبر، وأنني قادر على الإبصار بفضلها، وهذا يفسر كيف تغير الكتب حياتنا.

• عملك في مكتبة أهلية في العراق، ماذا أكسبك؟

•• في بداية عملي في المكتبة وكنت صغيراً، كان الفضول هو دافعي بعد سنوات سترتبط حياتي بالكتاب، حين دخلت المكتبة أول مرة، كنت في التاسعة من العمر، أتذكر أنني كنت أقف مذهولاً أمام المجلدات الضخمة، ولم يخطر ببالي أنني سأقرأ بعضاً منها، في البداية كانت الرغبة في الحصول على القصص الملونة. بعد ذلك، وخلال سنوات، كنت أستبدل أجرتي في المكتبة بالكتب. كنت صغيراً عندما قررت أن تكون لي مكتبتي الخاصة في البيت، وربما تسخر مني عندما أقول لك إنّ أول كتاب قررت أن أشتريه كان مجلداً وهو أحد أجزاء دائرة المعارف الإسلامية، لم أكن أعرف هذا الكتاب جيداً ولم أقرأه في البداية فقط لأنه مجلد وبحجم كبير استهواني، مع مرور الزمن اكتشفت أن العمل بالمكتبة لا يعني أنك تقوم بترتيب الكتب وتلبية طلب الزبائن، وإنما تدخل في حوار معهم حول الكتب، الأمر الذي دفعني أن أقرأ أكثر لأتمكن من الإجابة على أسئلة الزبائن، كنت وأنا أدخل المكتبة، التفت باتجاه الرفوف التي تحوي مئات العناوين، وأشعر أن هذه الكتب تنظر إليّ وأنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها، وأحياناً أتخيل أنّ كل كتاب يخفي داخله عالماً سحرياً لانهاية له.

• ما الرسالة التي أردت أن توصلها للقارئ في كتابك «أحفاد سقراط»؟

•• منذ أن أصدرت كتابي الأول «في صحبة الكتب» كان عدد من الأصدقاء يقولون لي: «كتبت عن عدد من الفلاسفة باعتبارهم أدباء بلغة بسيطة، فلماذا لا تكرر المحاولة وتصدر كتاباً عن الفلسفة بنفس اللغة البسيطة التي تحمل قدراً من الوضوح». وقد سنحت لي الفرصة في السنوات الأخيرة أن أقرأ عشرات الكتب عن الفلسفة ورجالاتها وتاريخها، وكنت كلما هبط الليل أنزوي في غرفتي لأحاور شخصية ساهمت بتغيير أفكارنا فأصدرت كتابي الثاني «دعونا نتفلسف» وهو أشبه بالرد على عبارة دائماً ما نواجهها «يا أخي لا تتفلسف»، أردت أن أعرف كيف شاعت هذه العبارة، ومن يغذيها في وجدان الناس، وهل هناك حقاً ما يمنع الإنسان أن تكون له فلسفته الخاصة تجاه الحياة، وأن يكون له موقف نقدي لما يجري حوله؟

هذا الموقف من نفسك ومن الحياة، هو الضمانة لتجديد الحياة نفسها، وهو نوع من أنواع الفلسفة التي تجعلنا أكثر وضوحاً ونضجاً. وسواء قلنا مع أفلاطون إنّ الفلسفة هي دراسة الإنسان من حيث إنّه مركز الكون، أو قلنا مع الروسي برديائيف إنّ الفلسفة هي معرفة الروح، أو ذهبنا إلى ما ذهب إليه ديكارت من أنّ الفلسفة مهمتها البحث عن المبادئ الأساسية للمعرفة، أو اعتبرنا مع هيدغر أنّ الفلسفة تبحث عن إجابة للسؤال الأساسي: لماذا كان ثمة وجود؟ أو قلنا مع ماركس إنّ الفلسفة هي القوانين الأساسية للحركة في الفكر والاقتصاد والمجتمع والطبيعة، أو وقفنا في الفلسفة عند كامو الذي اعتبرها توقظ الوعي وتخلصه من سلسلة الحركات اليومية، أو رفضنا مع جيل دولوز أن تكون الفلسفة مجرد تأملات فردية.

ولهذا كان انشغالي بالكتابة عن الفلسفة؛ سواء في دعونا نتفلسف أو كتب ملعونة أو أحفاد سقراط أو حتى في الجزء الثاني من دعونا نتفلسف؛ الذي خصصته للفلسفة العربية الإسلامية، كان هدفي هو الإجابة على أسئلة من عينة: لماذا علينا أن نتفلسف؟.. ماذا سنفعل؟ ما الذي نريد أن نصل إليه، ما الموقف النقدي من الحياة والمجتمع، صحيح أنّ الإنسان ليس فيلسوفاً بالفطرة، وإنما هو فيلسوف عندما يجد ما يدعوه إلى التفلسف، فالفلسفة كما قرأنا عنها في الكتب هي استجابة ذهنية، مثلما الشعر استجابة وجدانية؛ بعبارة أوضح ليست الفلسفة سوى تلك المحاولة التي يراد بها معرفة الكون والإنسان، المهم أن تقوم المشكلة التي تستدعي قيام الفلسفة، التي هي رد الفعل أو رجع الصدى، فلكي تكون هناك فلسفة لا بد من أن تكون هناك مشكلة، وإنسان يحس بالمشكلة ويحاول أن يضع لها حلاً أو يتخذ منها موقفاً، فالفلسفة مشكلة وإنسان وما بينهما من علاقة، إذن أنا وأنت وجميع القراء مطالبون جميعاً أن نكون فلاسفة، لا على غرار سارتر ووليم جيمس أو برجسون أو الفارابي، وإنما على غرار ما أخبرنا به هنتر ميد في كتابه «الفلسفة أنواعها ومشكلاتها» من أن الفلسفة نشاط يشترك فيه البشر أجمعون؛ سواء أكانت تلك المشاركة عن وعي أو من دون وعي.

• هل تشغلك طريقة الكتابة عن الفلسفة؟

•• نعم، لأنّ القارئ للأسف لا يزال يعتقد أنّ طرق أبواب الفلسفة عملية معقدة، كما أنّ الكثير من الكتابات التي تنشر، للأسف، يقول أصحابها أو يكتبون أشياء لا يفهمها القراء، أو يتقصدون أن يجعلوا من الفلسفة مجالاً خاصاً بالنخبة. كثيرون يعتقدون أنّ الفلسفة هي أن تقول أو أن تكتب شيئاً لا يفهمه الناس، ويهتم به النخبة فقط، ولهذا كان كتابي أحفاد سقراط ومن قبله دعونا نتفلسف محاولة متواضعة للسؤال عن الفلسفة ورجالها، وكيف استطاعوا أن يغيروا تاريخ البشرية، وأن يتركوا بصماتهم على حركة المجتمعات، وقد سنحت لي الفرص أن أفكر في كتابة عن الفلسفة لها، ولو قدر بسيط من الوضوح، كتابة تشبه جلساتنا في المقاهي، وقد طلب مني بعض الأصدقاء أن أجمع هذه الكتابات البسيطة في كتاب أسرد فيه تاريخ الأفكار والنظريات التي ساهمت في تغيير نظرتنا إلى العالم والأشياء، صحيح أنني أردت من خلال هذه الكتب بث شغف الفلسفة إلى القراء، لكني في الوقت نفسه أردت أن أقول إنّ الفلسفة ليست مهمتها فقط أن تفسر لنا الأشياء المحيطة بنا كما أراد ديكارت، ولا أن تساهم بتغيير العالم كما أصر ماركس، ولكنها أي الفلسفة كما قرأتها عند سقراط وأفلاطون ومن بعدهم سبينوزا ومونتاني تعلمنا معنى الحياة وتساعدنا على قهر المخاوف التي تشل حركة الحياة.

• عراقي يطبع اليوم كتبه في دور نشر سعودية، هذا يأخذنا لسؤال أخير: هل تلاشت الفوارق اليوم ما بين المراكز والأطراف؟

•• عندما نشرت سلسلة مقالات «في صحبة الكتب» في جريدة المدى التي أعمل فيها، لم أكن أنوي نشرها في كتاب، كانت لدي رغبة في كتابة مقال صحفي أسبوعي عن الكتب وعلاقتي بها، وعن شغف القراءة، لكن بعد نشر ما يقارب الحلقات العشر، وجدت في إيميلي رسالة من صاحب دار أثر السعودية الأستاذ عبد الله الغبيين يخبرني أنّ هذه المقالات ممكن أن تصبح كتاباً، وأنه يرغب في نشرها، في البداية كنت متخوفاً، لأنني أعتقد أنّ هذه المقالات كتبت للصحافة، لكنّ الأخ عبدالله كان متحمسا وطلب مني أن تنشر كما هي، أكملت 30 حلقة كان هو يجمعها من موقع الصحيفة. بعدها صدر الكتاب عام 2016 ولم أكن أتوقع أن يحظى بكل هذا النجاح حتى إنّ طبعاته تجاوزت الطبعات الست؛ سواء في السعودية أو بغداد، وكان لهذا الكتاب الفضل في تعرفي على القارئ السعودي بشكل خاص والقارئ الخليجي بشكل عام، وهو قارئ ذكي ويتابع أحدث الإصدارات، بصراحة القارئ السعودي كشف لي ما لم أكن أعرفه عن النهضة الثقافية الجديدة في المملكة العربية السعودية وهي في عمومها نهضة لبناء الإنسان. أنا كقارئ وكاتب عراقي كنت أطلع على الثقافة السعودية من خلال بعض الكتاب، قرأت لعبد الله القصيمي، وإبراهيم البليهي، وغازي القصيبي، وتركي الحمد، وتوفيق السيف، ورجاء عالم، وكنت أتابع بشغف كتابات بدرية البشير التي أعدها أبرز الكاتبات العربيات، وطبعا الروائي عبده خال، وقرأت رواية موت صغير لمحمد حسن علوان وهي رواية مدهشة، أسماء كثيرة تربطني بالثقافة السعودية؛ التي تضم اليوم أسماءً مهمةً لشباب؛ وخصوصاً في مجال الترجمة، ولهذا أجد أنّ تعاوني مع دار نشر سعودية أضاف لي الكثير جداً، أعتقد أنّ الثقافة تساهم بتقليص الفوارق بين المركز والأطراف، وما حدث في معرض الرياض للكتاب قبل عام حين تم اختيار العراق ضيف شرف، لاحظنا وجهات نظر جديدة ومختلفة خرج بها المثقفون العراقيون الذين شاركوا في المعرض حيث قدموا للقارئ العراقي صورة المملكة العربية السعودية الحقيقية بعيداً عن الصور التي كان يقدمها إعلام منحاز، هذه هي مسؤولية المثقف ودوره في إعادة الأواصر بين المثقفين العرب.

• أخيرا، ما جديدك؟

•• سيصدر لي الجزء الثاني من كتاب «دعونا نتفلسف»؛ وهو مخصص للفلسفة العربية بعنوان «دعونا نتفلسف.. 25 مفكرا لم يغيروا حياتنا»، وسيصدر لي كتاب بعنوان «سؤال التنوير» وهو أشبه بكتاب «سؤال الحب»، وعن دار الرافدين كتاب بعنوان «برميل سارتر عن الوجودية والعدمية والعبث».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى