حسن آل عامر لـ «عكاظ»: لدينا ندرة في كتّاب الرواية التاريخية أخبار السعودية
صدرت له قبل أسابيع روايته الأولى «رصاص في بنادق الآخرين» ضمن مبادرة 100 كتاب بين الصندوق الثقافي ومؤسسة أدب. في هذا الحوار حديث عن تجربة حسن آل عامر، وروايته الجديدة، ومشروعاته الإبداعية في المستقبل.. فإلى نصّ الحوار:
• كيف يمكنك تبسيط فكرة عملك الروائي الأول «رصاص في بنادق الآخرين» لقارئ لم يتمكن من قراءة هذا العمل؟
•• على الرغم من صعوبة تبسيط فكرة العمل الأدبي من أي مؤلف، لكن يمكن أن أقول إنه عمل يحاول استكشاف مرحلة صعبة مرت بها منطقة عسير في ظل الاحتلال العثماني، إضافة إلى بعض الحوادث التي ما زالت عالقة في الأذهان خلال القرن العشرين، وذلك من خلال الروائي «مرزوق» الذي تضعه الأقدار في مواجهة مع مطرقة المجتمع الذي يراه في درجة أدنى في السلم الاجتماعي على الرغم من انتسابه من جهة الأب إلى علية القوم، لكن مأساته ومأساة أمه أحد وجوه القهر الاجتماعي. ولكنه لا يستسلم بسهولة، فشجاعته تؤهله أن يكون أحد الأبطال السعوديين في حرب 1948م، ومن هنا يسرد العمل الكثير من ملامح وقيم وبطولات الأجداد في كسر شوكة المحتلين، كذلك لا يخلو العمل من مساءلة بعض مراحل التاريخ الحديث وتأثير التحولات الاجتماعية على حياة الناس ونظرتهم للآخرين.
• كيف تشكّلت فكرة عملك الروائي الأول؟
•• الحقيقة أنني لم أخطط مسبقاً لكتابة عمل أدبي يستمد روحه من تاريخ المكان، فقد كنت أحرص وأبحث عن كل ما أستطيع الحصول عليه من مؤلفات أو مخطوطات أو حتى حكايات شعبية للقراءة والمتعة والاستماع، فمنذ الصغر وأنا أسمع في المجالس المختلفة قصصاً كثيرة مقرونة بالشعر عن تضحيات الأجداد الأوائل من أجل الكرامة والأرض والاستقلال في الحياة اليومية.
لا أخفيك سراً أنني ومنذ مراحل مبكرة من الوعي، كنت وما زلت أعشق التجول في المواقع الأثرية، خصوصاً الحصون والقلاع التي خُلدت في التاريخ وفي سير الناس والأمكنة، أسير حولها أو في جنباتها وأنا في حالة انفصام شبه كامل عن العصر الحالي، أشعر وبشكل تلقائي أنني جزء من سكان المكان، أعيش معهم اللحظات الجميلة وتفاصيل الحياة اليومية، أزرع وأحصد، أعشق وأطرب، وفي الوقت نفسه أحمل سلاحي وروحي في لحظات الخوف والغزو. مع الوقت أيقنت أن إنسان الجزيرة العربية ومنها منطقة عسير كان وما زال صعب المراس عندما يشعر أن هناك من يحاول إذلاله أو التعدي على أرضه وعرضه، ولهذا سطر الكثير من البطولات وقدم التضحيات، وفوق هذا فهو يملك قيماً حضارية وإنسانية لم تأخذ حقها في التناول الأدبي والفني. وكنت أسأل نفسي في كل مرة، ماذا فعلت الأجيال الأدبية من أجل هؤلاء؟، وأصل إلى إجابة واحدة: لا شيء يذكر!
بدأت التفكير في كتابة العمل منذ أربع سنوات تقريباً، كتبت وتوقفت كثيراً؛ لأن الكتابة في مثل هذه الموضوعات محفوفة بالتوجس وربما التأويلات، والأهم من هذا كله أنني كنت خائفاً من الفشل في إنتاج نص روائي في حده الأدنى، لكن تشجيع الكثير من الأصدقاء، إضافة إلى استفادتي من ورش ومحاضرات عدة عن الرواية التاريخية خصوصاً تلك التي قدمتها مشكورة دارة الملك عبدالعزيز، جعلني أقفز في نار الرواية التاريخية، وأسال الله السلامة من العواقب.
لا أزعم أنني فعلت الكثير في هذا العمل، فهو في النهاية نص أدبي له محددات فنية معينة تستلزم الاستفادة من بعض مفاصل التاريخ مع توظيف العادات وشيء من مظاهر الحياة اليومية في زمن الحدث التاريخي، وقد يصنف في خانة العمل الروائي القصير إلى حد ما، وذلك لقناعة شخصية أن الزمن لم يعد يحتمل المطولات الأدبية.
• في هذا العمل استطعت الموازنة بين التاريخ والكتابة السردية الفنيّة.. هل وجدت صعوبة في هذا الأمر؟
•• قبل الدخول في الجوانب الفنية أريد التأكيد على أننا المحسوبين على الأدب قصرنا كثيراً في حق أرضنا وتاريخنا، أصبحت أعمالنا الأدبية والفنية نسخاً مكررة وربما مشوهة من الآخرين، في رأيي أن إشكالية معظم الأعمال الأدبية السعودية على وجه الخصوص أنها لا تحمل بصمة وهوية واضحة تجعل القارئ في أي مكان في العالم يقول في نهاية القراءة ودون أن ينظر إلى تعريف للكاتب «آه.. هذا العمل لكاتب سعودي»، قد يرد أحدهم «إن الإبداع لا مكان أو زمان له..» وأقول له «إذا كتبنا مثل الآخرين، بثقافاتهم وفنونهم فلن يحترمونا ولن تخلد أعمالنا، سيعاملونها كالأكلات السريعة، يتلذذون بطعمها للحظات ثم تنسى، وقد يثنون عليها ويبرزونها في فترات معينة إذا كانت تخدم توجهات معينة يريدون ترسيخها في المجتمعات العربية والإسلامية تحت رداء الأدب والفن، حتى وإن كانت تلك الأعمال رديئة فنياً».
أما من جهة سؤالك حول المزاوجة بين التاريخ والكتابة السردية، ففي اعتقادي الجازم أن كتابة التاريخ، في حد ذاتها، مهارة سردية عالية تحتاج إلى مؤرخ وأديب في الوقت نفسه، ليس الأمر مجرد رصف أحداث وقعت في زمن معين، بل الأهم كيف تقدم هذه الأحداث، وبالطبع يتمايز المؤرخون كثيراً في هذا الجانب؛ لذلك لا أعتقد أن هناك حواجز كبيرة بين الكتابة الإبداعية والفنية التي تستفيد من التاريخ ومن كتابة التاريخ نفسه، لكن الصعوبة هي أن تقنع القارئ أنك تكتب عملاً تخييلياً تستمد حروفه نبضها من أكسجين التاريخ والأرض، لكن الدماء التي تسري فيها دماء أخرى من زمن آخر وجنس آخر لا يوجد إلا في ذهن الكاتب.
• لماذا رصاص في بنادق الآخرين؟
•• يا صديقي، كلنا بشكل أو بآخر (رصاص/ بيادق) في أيدي آخرين، المعضلة الإنسانية عبر العصور، التي تسببت في الكثير من الكوارث والنكبات للبشر هي التمايز الطبقي، هذا التمايز قد يجعلك «رصاصاً» يقذف به الأعلى مكانة اجتماعية أو نسباً أو سلطة في وجوه أعدائه هو، وقد لا تستطيع الحصول على لقمة العيش إذا لم تكن رصاصة قاتلة لآخرين حتى دون رضاك.
الرصاص ليس فقط ذاك الحديد المحشو بالبارود الذي نضعه في بنادقنا أثناء المعارك، فالكلمة رصاصة، والنقش رصاصة، واللوحة الفنية رصاصة، و الرقصة الشعبية رصاصة،.. أليس الإنسان البسيط غالباً هو الأداة التي تنفذ تلك الأنشطة؟! ولننظر إلى المدونات البشرية منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى الآن، هل ذكرت اسم الجندي الذي افتدى قائده، ألم يكن القادة والسلاطين هم من يكتبون تاريخ انتصاراتهم في المعارك التي حصدت آلاف (الأرواح/ الرصاص)؟!
في هذه الرواية المتواضعة وجدت إحدى تلك الرصاصات التي دفعت الثمن لأجل حياة الآخرين.
• متى أدركت أنّ موهبتك تقودك لتكون قاصاً وروائياً؟
•• لا أستطيع القول إنني كنت موهوباً، لكن ما أتذكره أن القراءة الحرة خارج المنهج الدراسي كانت تشعرني بارتياح نفسي، وتجذبني بشكل كبير منذ المراحل الأخيرة في دراستي المتوسطة، ثم تعزز الأمر في المرحلة الثانوية خصوصاً في ظل وجود معلم اللغة العربية الأستاذ إبراهيم طالع الذي شجعني على القراءة في الملاحق الثقافية في الصحف، وأهداني وقتها كتباً أدبية عدة؛ أتذكر منها رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو ورواية «الآمال الكبيرة» لتشارلز ديكنز وغيرهما، ثم كان أول منشور أدبي لي في أواخر عام 1992م في مجلة «اليمامة» بصفحة القراء، لكن الانطلاقة الحقيقية بدأت منذ عام 1994 من خلال نشر قصص قصيرة عدة في الملاحق الثقافية بصحف مثل «البلاد» و«المدينة»، حتى جاء صدور صحيفة «الوطن» في عام 2000 فبدأت أرسل بعض القصص القصيرة لهم للنشر إضافة إلى مواد صحفية في التراث والفنون.
• عملك في الصحافة الثقافية لسنوات، ما الذي أضافه لك، وما الذي أخذه منك؟
•• الحقيقة كان تحولاً كبيراً في حياتي، فهو أعطاني أملاً جديداً بعد نكسات عدة، والجميل فيه أن المجال الثقافي الذي عملت فيه مباشرة كان هو الهم اليومي لي وقتها.
دخلت القسم الثقافي محرراً في المركز الرئيس للصحيفة بأبها في منتصف أكتوبر 2001 وبقيت بالمسمى الوظيفي ذاته حتى 2009، وقتها انتقلت لعمل آخر وبقيت محرراً متعاوناً، وفي أواخر عام 2015 عدت رئيساً للقسم الثقافي لمدة عام، ثم انتقلت إلى عملي الحالي في وكالة الأنباء السعودية، وخلال فترات متقطعة كنت أكتب تقارير ثقافية وسياحية لبعض المجلات المتخصصة.
أما عن سؤالك ماذا أخذ وماذا أعطى..؟، فلا شك أعطاني، كما قلت سابقاً، الثقة في النفس والقدرات الشخصية، إضافة إلى أن عملاً مثل هذا يمنح الصحفي مساحة واسعة للتعرف على فئات كثيرة في المجتمع خصوصاً «المجتمع الثقافي» إن صحت التسمية، لكن المشكلة التي يعانيها المحرر الصحفي عموماً في المراكز الرئيسية للصحف وربما جميع وسائل الإعلام الأخرى هي أنه سيتحول إلى ما يشبه الآلة التي لا تهدأ، فقد لا يجد الوقت الكافي لنفسه وعائلته، وبالتالي علاقته الاجتماعية ستكون شبه مقطوعة، خصوصاً في صحيفة مثل «الوطن» التي تعمل بأسلوب ورتم سريع في المتابعة الخبرية والحدثية مع قلة في الكادر العامل.
أما في الكتابة الأدبية فكان التأثير كبيراً جدّاً، إذ يحتاج الكاتب إلى مساحة من الوقت والصفاء الذهني لكي ينجز عمله الأدبي خصوصاً في مجال السرد، وهذا ما لا يتوفر في ظل اللهاث الصحفي اليومي، وأصدقك القول إنني أهملت العشرات من الأفكار التي دونتها في تلك الفترة فلم أستطع كتابتها سواء في مجال القصة أو الرواية و«ذهبت مع الريح».
• حضور المرأة في عملك الروائي، هل كان معبراً بالفعل عن تلك المرحلة؟
•• إذا كنت تقصد حضورها في رواية «رصاص في بنادق الآخرين» هذا واقع تعرفه وتقره الأجيال، المرأة والأرض هما أيقونتا الخصب والنماء، لذلك إحدى بطلات العمل «زرعة» ليست مخلوقاً بشرياً جميلاً ومتفرداً بين أقرانه فقط، هي حياة تنبع من الأرض فتزهر وتنشر السعادة والرخاء، لا أريد هنا أن أتجاوز حدي ككاتب للعمل لكي أحلل رمزيات معينة فيه قد تكون مقصودة وقد لا تكون، فهذه مهمة الناقد، وبالطبع في حال كان العمل مقنعاً لأي ناقد لتناوله.
أشير هنا إلى أنني لم أسمع حكاية شعبية على لسان الآباء والأجداد إلا وكانت المرأة بكل صفاتها؛ سواء العاطفية الرقيقة أو القوية العاملة أو الشجاعة المقدامة، حاضرة وبقوة في تلافيف القصة الواقعية أو الأسطورية، فالأساطير الشعبية في الجزيرة العربية ومنها، منطقة عسير، تتناول المرأة بشكل كبير وتبرز دورها في الحياة.
• لماذا المزاوجة في الحوارات بين العامية والفصحى في عملك الروائي؟
•• ذكرت في إجابة سابقة هنا أن هوية العمل الأدبي وارتباطه بالبيئة التي تنبع منها أحداثه أمر بالغ الأهمية في مصداقيته وتعبيره عن تاريخ وهموم وقضايا المجتمع الذي تدور الأحداث فيه، ولا أنكر أنني في الرواية حاولت قدر المستطاع أن يكون العمل مفهوماً ومقروءاً لكل متحدثي اللغة العربية، لكن هذا ليس على حساب بيئة الحدث الواقعية التي لن يعبر عنها إلا أهل المكان بكل قيمهم ولهجتهم الأصيلة التي هي إحدى فروع العربية «الفصحى» المعروفة؛ ولذلك كان لزاماً أن ترد بعض العبارات بلسان أهلها وكما تنطق لديهم، ولا أعتقد أن هذا عيب فني بقدر ما هو مهارة كتابية توظف في الموضع المناسب دون إسراف.. هل نجحت أم لا في هذه المعادلة؟.. لا أستطيع الإجابة.
ولعلي هنا أذكر حالة الدهشة التي عشتها وأنا اقرأ الترجمة العربية لرواية «الصيادون» للروائي النيجيري تشيجوزي أوبيوما التي ترجمت إلى أكثر من 20 لغة في العالم وحصلت على جوائز مرموقة عدة، فلم تكن تشبه أي رواية إنجليزية أو فرنسية مثلاً، كانت رواية أفريقية نيجيرية خالصة، تتحدث عن عادات وفنون وهموم مجتمع الكاتب، وهو ما فعله الكاتب الكيني «نغوغي واثيونغو» بشكل أعمق حتى أنه كتب بعض رواياته بلغته القومية وهو الكاتب والروائي المعروف باللغة الإنجليزية، ولأنه كتب من بيئته الأم بكل مآسيها وأفراحها وقيمها وعاداتها فقد رشح لجائزة «نوبل» للآداب أكثر من مرة رغم أنه لم يحصل عليها، ولكنه حصل على جوائز أخرى مرموقة. هذان الروائيان وغيرهما المئات في جميع أنحاء العالم أظهروا أبطال بلادهم المغيبين ومعاناة البسطاء للعالم على الرغم من سيطرة الشخصيات المستهلكة أدبياً وسينمائياً مثل قادة الحروب بين الغرب والشرق على الأعمال الروائية والسينمائية خصوصاً. وعندما ننظر لتاريخ واقعنا نجد أننا نملك الكثير مما يمكن توظيفه إبداعياً والوصول به للعالمية دون محاكاة أعمال الآخرين.
• الكتابة في التاريخ إبداعياً، هل كانت بالنسبة لك مسايرة للموضة السائدة، أم تراها ضرورة لشيء ما في نفسك؟
•• لا شك أنها كانت وما زالت هاجساً شخصياً، وأعتقد جازماً أن لدينا ندرة إلى حد ما في هذا الجانب، والرواية محاولة متواضعة جدّاً للدخول إلى هذا النوع من الأعمال الأدبية المحفوفة بالمحاذير الفنية والاجتماعية والسياسية، ولذلك يمكن أن تصف الكاتب الذي ينجز عملاً أدبياً يتكئ على تاريخ المكان الذي يعيش فيه، بالسائر على الجمر، خصوصاً إذا كان التاريخ المتناول مصنفاً في إطار «التاريخ الحديث» وكانت له امتدادات وتأثيرات على الواقع الحالي.
• بعد خروج عملك الروائي الأول ضمن مبادرة الصندوق الثقافي ودار «أدب».. ما الذي يشغلك إبداعياً؟
•• أولاً؛ لا بد أن أشكر كل القائمين والداعمين لمبادرة 100 كتاب؛ خصوصاً الصندوق الثقافي ومؤسسة «أدب»، فقد كنت متكاسلاً جدّاً في إنجاز العمل، ولكن المبادرة أسهمت في استكمال العمل بل وإعادة الكتابة في بعض الفصول.
والآن أستعد لكتابة رواية أخرى قد تكون مختلفة إلى حدٍّ ما عن الخط الفني للرواية الأولى، وأسأل الله العون في إنجازها.