رائدة العامري: أنا بنت التاريخ والحضارة أخبار السعودية
• ماذا يعني تدريسك في جامعة تحمل اسم مدينة بابل؟
•• بابل عاصمة العراق القديمة، وهي عاصمة لأربع حضارات متعاقبة، المدينة التي ولد بها النبي إبراهيم عليه السلام، فضلاً عن أن الانتماء لهذه المدينة يعني الانتماء للتأريخ وللحضارة، وأنا بنت التأريخ والحضارة.. التدريس في جامعة تحمل اسم المدينة التاريخية (بابل) رمز لنشر المعرفة والتراث البابلي وتعزيز تفهمنا لهذه الحضارة القديمة وإرثها الثقافي والحفاظ عليه؛ لا سيما الحرص على الإسهام في البحث العلمي والتطوير الاجتماعي.
• لمن ترجعين الفضل فيما وصلت إليه؟
•• بدأ اهتمامي بالأدب مبكراً مع قراءتي الأولى وتعلم الأبجدية أميل للشعر وأبحر فيه بخيالي وبما مكنني الله من إصرار وتحمُّل. وكان للأستاذ الدكتور محمد صابر عبيد أستاذي في مرحلة البكالوريوس وهو أستاذ النقد والأدب، فضل، إذ كنت من بين الطالبات المتفوقات في الدراسة، ولاحظ ميلي إلى قراءة الأدب والنقد قراءة مختلفة كما قال إنه ينمّ عن شخصية ناقد أو أديب يستحق الاهتمام، بدأت معه درس النقد الذي كان درساً مميزاً لما حواه من تطبيقات عديدة؛ وفق مناهج حديثة أثَرتْ معرفتي وزادت حبي لدرسِ النقد تحديداً، وتوج ذلك كله بعدما أصبحت طالبة للماجستير وأنا هنا أعد نفسي باحثة وناقدة في الشعر بشكل خاص والأدب بشكل عام، ولاحظ ذلك أستاذي الدكتور حسين عبود الهلالي في جامعة البصرة، فمنحني من وقته وعلمه ومكتبته ما منحني لأكون باحثة جادة ومميزة، هذا ما لاحظه وما منحه من وقت أثري به المعرفة وأثري به معرفتي، وزادني حماساً ذلك الإطراء الذي كان يقوله لي، وعندما أتساءل أو أشكره على الإطراء، يقول: أبداً هذا ليس بالإطراء إنما هذه هي الحقيقة وأنا أتوسم فيك باحثة وناقدة مميزة، وتكامل ذلك كله في مرحلة الدكتوراه، عندما أرى قامات كبيرة من الأساتذة الأفاضل منهم الأستاذ الدكتور عبدالعظيم السلطاني ما جعلني كأنني طفلٌ يحبو في مهده الأول وكأنني عدت إلى الدراسة من صفي الأول، وكان له الفضل الكبير في توجيهي توجيهاً مختلفاً وكأني أحمل قلمي وأُعملُ فكري لأول مرة، فكان ما كتبته في أطروحة دكتوراه محط إعجاب ورضا الكثيرين.
• لماذا اعتنيت بشعر محمد الجواهري والصكر تحديداً؟
•• الجواهري شاعر العرب الأكبر، كما وصفه بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي، للشعر العربي (قمتان) المتنبي والجواهري، ولأنني من معاصريه فإنني أميل إلى الجواهري.. وعندما سُئل السياب عن المفاضلة بين الجواهري وأحمد شوقي قال: ما أرى أحمد شوقي إلا قزماً أمام العملاق الجواهري، هذا من جانب، ومن جانب آخر يعتبر شعر الجواهري توثيقاً لتأريخ العراق والعرب في مسيرته الطويلة، التي وحدها تعتبر مرجعاً تاريخياً للعراق، بضخامة ديوانه، وغزارة إنتاجه، وتنوع أفكاره ورؤيته، ما يجعل القارئ/ المتلقي يتوجس عند سبر أغوار عالمه الداخلي، كونه عالماً محفوفاً بالمخاطر، فلا يسلم فيه الدارس من التوجس والحيرة، ويستشعر مكنونات الشاعر وخفاياه المرتبطة بالمرأة والبيئة، إذ يشمل العديد من المجالات والاتجاهات الفكرية والمفاهيم المتعلقة في إطار ينمّ عن استلهام ثقافة الشاعر القارّة والأفكار الراسخة، وتفاعلاته الاجتماعية، عن طريق منظور قائم على التحليل والاستقراء العلمي لتجربته الأدبية، التي تجلت في منجزه الشعري، الذي قدمه بطريقة جذابة وممتعة ومشوقة، تعين على إعادة بناء المنظومة الفكرية لدى الجواهري وإيصالها برؤية ثقافية إلى القارئ/ المتلقي.
أما شعر حاتم الصكر.. فهذه قصة كبيرة وجميلة، إذ لم أتردد أبداً في تتبع نداءات القصيدة.. وكما قال الدكتور حاتم الصكر: «ذلك التردد لم يكن مجدياً إزاء إصرار الأستاذة الدكتورة رائدة العامري، وهي تحثني على أن أُتاح للقراءة ولأغراض الدراسة الجامعية مع طلَبتها، كل ما أصدرت شعرياً، في أزمان وأمكنة بعيدة ومتباعدة، بل تولت متابعة نشره وأشرفت عليه، وربما استقصت فيه بعض اهتمامات جيلي، وتنويعات موضوعاته، ونوعاً من أسلوب كتابته».. هذا ما قاله نصّاً الدكتور حاتم الصكر في مقدمة الديوان.
ويعدّ الدكتور حاتم الصكر من النقاد الكبار في المدونة العراقية الحديثة وله أطروحات كبيرة، وأثار انتباهي بمقدرته النقدية إضافة لشعرية الناقد الكبير ما دفعني للبحث في الإرث الشعري، وتبين لي إثر البحث والاستقصاء والذهاب إلى المكتبات في بغداد أن للناقد الصكر مجموعة شعرية واحدة عثرت عليها، فيما بقية الأشعار مبثوثة في أماكن متفرقة، ولهذا أخذت على عاتقي مسؤولية جمع هذه الأعمال الشعرية في كتاب واحد، وتيسر لي ذلك بمعونة الدكتور حاتم الصكر، فتواصلت معه وأرسل لي القصائد على شكل صور فوتوغرافية ليس إلا، وقمت بجمع هذه الأشعار وطباعتها وتنضيدها وتنقيحها ومن ثم أرسلتها إلى الدكتور حاتم الصكر وهو الذي دققها أيضاً، تم لنا بعون الله جمع هذا الإبداع الشعري، في الدواوين الأربعة لترى النور وهذه مسؤولية أدبية ونقدية كبيرة؛ كوني أتولى جمع شعر الشعراء، وشعر النقاد، ولهذا كان الدكتور حاتم الصكر موضوعاً مهماً لي عندما قمت بتبويب هذه الأشعار وتنقيحها ومن ثم إعادة طباعتها ونشرها. والدافع الرئيسي لهذا الموضوع ما وجدته من إبداع في هذه المدونات الشعرية التي تعني الكثير للقارئ/ المتلقي.
• ماذا أعطى شعر الجواهري للمرأة العراقية؟
•• إن الحديث عن المرأة في شعر الجواهري مغامرة كبيرة، برؤية المحاور الثقافية والفكرية والأدبية، والاجتماعية التي تناولها الشاعر. ولا بد لنا من الاعتراف بأن المرأة ليست جسداً بيولوجياً، وإنما مكوّن تاريخي واجتماعي وثقافي، وهذا يفسر حركة نمط شعر الجواهري من الخطاب الموجه نحو المرأة في غايته وأبعاده وبيان طبيعة العلاقة، التي تتجلى في التوظيف لهذا المفهوم في المنجز الشعري. التي تُشير إلى منظومة فكرية ثقافية، تتضمّن المفاهيم والمقولات لواقع وغاية يملكها الشاعر معرفياً، فحضور المرأة في النص الشعري له دلالة اجتماعية، تتضمن إعادة رسم صورة المرأة عند المتلقي، ليتمكن من الولوج إلى عالم النصّ الشعري، والتعامل مع أسراره وفك رموزه، على مستوى التشكيل المنجز للخطاب الشعري. إذ إنَّ المرأة يمكن أن تكون كناية عن المجتمع، وهي صورة من صور الخطاب الاجتماعي الثقافي، ذي البعد الأدبي والتراثي والفني، وعالج الشاعر قضية تحرر المرأة من نماذج متعددة عبر منجزه الشعري؛ وفق منظور ملحوظ يجمع بين العلم والتحرر والنهضة، ويتناول قضايا التخلف والطبقية، والارتباط بالآخر، فللشاعر رؤيته في خطاب المرأة التي تدل على العمق الإنساني والبُعد الثقافي، ما يحتّم النظر إليها باحترام فائق، ووقف الجواهري إلى جانب المرأة، ودافع عن حقها في التحرر والتعليم، ورفع صوته عالياً لتعليمها، وفي هذا دلالة على جرأة الشاعر وصراحته وقوة موقفه المباين لمواقف الكثير ممن يقف أمام حرية المرأة ونقرأ له:
عَلِّمُوها فقد كَفاكُـــــــــمْ شَنارا
وكَفَاها أنّ تحسَبَ العِلم َعارا
• كيف تقرأين واقع الثقافة العراقية؟
•• في الحقيقة نبقى باحثين لا نعطي الحكم القاطع لشيء معين ولا يمكن التقييم تقييماً قطعياً.. لكن يبقى سؤال ذكي يأخذنا في رحلة فنية عميقة، إلى ثقافة تعود إلى آلاف الأعوام، والوقوف عند تاريخها العريق، ما يمنحنا أفقاً أوسع وأعمق لتأمل الثقافات والحضارات، ومنها الحضارة السومرية والبابلية، فضلاً عن الأحداث التاريخية المهمة التي شكلت العراق كما نعرفه اليوم.
• لأي مدرسة نقدية تنتمين أو تميلين؟
•• بما أنّ هدفي تقديم قراءة نقدية دقيقة وافية للنص فلا بأس من أن أستعين بكل المذاهب النقدية مثل: (المذهب النفسي، والتاريخي، والمتكامل، والفني)، ولكني أجد ضالتي في المذهب الفني، الذي ينظر إلى فنية النص. أما بالنسبة للمدارس النقدية سواء التأويلية أو التفكيكية أو السيميائية أو حتى التاريخانية الجديدة، فلا أجد ضيراً في استثمار جميع التقنيات المتاحة من هذه المدارس، بما يسهم في فكّ شفرات النص، وإن كنت أميل أكثر إلى التأويل.
• هل تخلّى الناقد عن دوره النقدي لصالح النقد الثقافي؟
•• لا شك أن الناقد لا يتخلى عن دوره النقدي لصالح النقد الثقافي؛ فالناقد الأدبي أو الفني يعمل على تحليل الأعمال الأدبية أو الفنية، بغض النظر عن الجوانب الثقافية المرتبطة بها. أما النقد الثقافي فيركز على فهم الأعمال الثقافية وتأثيراتها على المجتمع وتحليل العوامل الاجتماعية والثقافية التي تتداخل فيها، على الرغم من أن النقد الثقافي يمكن أن يكون جزءاً من النقد الأدبي، ويمكن أن يضيف أبعاداً إضافيةً للنقد الأدبي أو الفني ويوفر الفهم العميق للعمل وتأثيراته في الثقافة المحيطة به، فإنه يركز على جانب أوسع من التأثير الثقافي للأعمال؛ فضلاً عن ذلك يمكن للناقد أن يوظف مهاراته النقدية والتحليلية في التعامل مع الأعمال الفنية والأدبية من منظور ثقافي أو اجتماعي؛ أي أن يمارس النقد الثقافي كجز من دوره النقدي الأوسع.
• بماذا تردين على من يقول: «النقد العربي صدىً لما قدمه النقاد المصريون»؟
•• نعم، يمكن القول إن النقد العربي انعكاس لما قدمه النقاد المصريون على مرِّ العصور، إذ قدم النقاد المصريون مساهمات مهمة في مجال النقد الأدبي والفني، وطرحوا آراء وتحليلات قيمة للأعمال الأدبية والفنية. فتاريخ مصر الثقافي غني وحافل بالنقاد المعروفين؛ ومنهم الدكتور طه حسين، وجابر عصفور، وصلاح فضل، وغيرهم ممن نعدهم أعمدة تاريخ النقد العربي. فالقاهرة منطلق نشوء وتطور مدارس نقدية مهمة دفعت حركة النهضة الأدبية للنهوض، ومع ذلك، يجب أن نعترف أن النقد العربي ليس حكراً على المصريين فقط، بل توسّع وشمل جميع أنحاء الوطن العربي. ويمكننا القول إن النقد العربي تراكم لتجارب وأفكار العديد من النقاد وليس محصوراً ومقتصراً على بلد بذاته.
• ما أبرز تناولات نقدك السردي؟
•• يوجد العديد من المدلولات التي يمكن استخدامها في النقد السردي، منها في تحليل الهيكل السردي للعمل كالتوزيع الزمني للأحداث والتوتر الدرامي. ثم المدلولات النفسية والمدلولات الثقافية والاجتماعية، ومن ثم المدلولات التي تتعلق بالصراعات في النص.
• هل من مهددات لهويتنا الثقافية العربية؟
•• ربما يكون للتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة في المجتمعات العربية تأثير مباشر أو غير مباشر على الهوية الثقافة العربية، لا سيما الهجرة واللجوء والإقصاء والتمييز التي تواجه البعض في بعض الأحيان ما يؤدي إلى إضعاف القدرة على التعبير عن الهوية الثقافة العربية بحرية، فضلاً عن الصراعات والحروب التي تؤثر بشكل كبير على الهوية؛ سواء من خلال الجانب المادي للتراث الثقافي أو المعنوي، ولا بد أن نجتهد في الحفاظ على الهوية، بتعزيز ثقافتنا والتواصل بين المجتمعات العربية.
• أين تجدين حضورك الأقوى في التدريس أم التحكيم أم الكتابة؟
•• حضوري الأقوى يعتمد على نوع الأداء الذي أتقنه بشكل جيد؛ سواء في التدريس، التحكيم، والكتابة، وتقديم المعلومات بشكل واضح ومنظم وتوجيه المتلقين لتحقيق أهدافهم العلمية، وتوضيح المفاهيم المعقدة وتوفير المساعدة والتوجيه المستمر.
• هل يمكن أن يكون النقد تجريبياً شأن الإبداع؟
•• نعم.. يمكن أن يكون النقد تجريبياً فيما يتعلق بالإبداع؛ كون النقد التجريبي نوعاً من النقد الذي يركز على التجديد والابتكار في الأعمال الفنية أو الأدبية. وفي هذا السياق، يمكن أن يتعامل الناقد التجريبي مع الأعمال الإبداعية بطرق غير تقليدية ويستكشف مختلف الجوانب الفنية والمفاهيمية فيها، ولا سيما يمكن الناقد من تحليل وتقييم التجارب الإبداعية المبتكرة والمحدثة، التي تتجاوز الحدود العادية للفن أو الأدب التقليدي. والنقد التجريبي يسهم في تعزيز التطور والابتكار في الفنون والأدب من خلال فهمنا الأعمق للإبداع وتأثيره على المجتمع والثقافة، فضلا عن أن الناقد التجريبي لابد أن يحافظ على طابعه الشخصي ورؤيته الفنية الفريدة، ما يمكنه من تقديم آراء وقراءات لافتة ومدهشة عن الأعمال الإبداعية بعيداً عن المحاكاة.
• ما انطباعك عن مواقع التواصل الاجتماعي؟
•• تعد المواقع الاجتماعية وسيلة مهمة للتواصل والتفاعل مع الآخرين، وتوفر وسيلة لاكتساب المعرفة والمعلومات وتبادل الأفكار والآراء والخبرات. مع ذلك، ينبغي أيضاً أن ندرك بعض التحديات المحتملة للمواقع الاجتماعية؛ كونها تسبب الضغط الاجتماعي والشعور بالقلق، لكن الاستخدام السليم والمتوازن للمواقع الاجتماعية مهم وذلك للحفاظ على توازن بين العالم الافتراضي والحياة الواقعية.