فايننشال تايمز: ماذا سيتبقى من غزة بعد نهاية الحرب؟
تتساءل صحيفة “فايننشال تايمز” في تقرير أعده مراسلوها في لندن والقاهرة وغزة، قالوا فيه إن دمار الاقتصاد والبنى التحتية في قطاع غزة يثير أسئلة للناجين من الحرب وإن كانوا سيجدون شيئا يستحق العودة إليه بعد نهاية الحرب.
فقد اعتقد فيصل الشوا أنه شاهد الأحسن والأسوأ لما يمكن أن تقدمه غزة، فكشاب قبل ثلاثة عقود كان واحدا من الذين امتلأوا بالتفاؤل عندما احتشد الغزيون للترحيب بالزعيم ياسر عرفات. وكان ذلك في صيف عام 1994 وبعد عشرة أشهر من توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقيات أوسلو التي كان الكثيرون يأملون بأن تقود لتسوية دائمة للنزاع الذي مضى عليه عقود. ووعد عرفات دامع العينين “بوطن حر وديمقراطي”، وتحولت غزة لقاعدة السلطة السياسية وإن لفترة وجيزة. ويتذكر الشوا “أخيرا لم نعد نرى الجنود الإسرائيليين على الأرض في غزة، وكان هذا رائعا”. وفي العام التالي عاد وبدعم من والده ومعه شهادة في الهندسة المدنية من الولايات المتحدة، وكان مقتنعا أن غزة ستزدهر، ولكن لعدد قليل من السنوات، قبل أن تنهار العملية السلمية وتدخل في دوامات من العنف والتعافي المكلف.
لكن الشوا تمسك بالآمال وواصل الاستثمار، حيث تحولت شركة الإنشاءات إلى قاعدة انطلاق لإمبراطورية أكبر تضم مصانع للطوب والإسفلت ومشاريع سكنية ومزارع دجاج وحمضيات وزيتون. واستمرت استثماراته في أثناء الحروب الـ4 بين إسرائيل وحماس التي سيطرت على القطاع منذ عام 2007، وفي كل مرة تعرضت مصانعه ومزارعه للضرر قام بالاستثمار فيها من جديد.
واليوم هو في أدنى حالاته المعنوية، حيث أجبر على ترك بيته وهو غاضب وغير قادر على فهم الدمار الذي أحدثته القنابل والجرافات الإسرائيلية خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وقال الشوا “لقد خسرنا ثروتنا، ونحن الآن لاجئون ولا مال لدينا أو أرض. ولا نستطيع أخذ ملابسنا من البيت وكل استثماراتنا ومصانعنا” و”اليوم كل شيء مدمر”.
ويعاني كل الغزيين، أغنياء وفقراء، شبابا وشيوخا، من الغارات الجوية التي لا ترحم والعملية البرية ضد حماس في غزة. وفقدت كل عائلة تقريبا قريبا أو صديقا حيث وصل عدد القتلى منذ الهجوم الإسرائيلي في 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى 22.000 شخص معظمهم من النساء والأطفال، حسب المسؤولين الفلسطينيين.
وإلى جانب حصيلة الموت المتصاعدة، فإن حجم الدمار هو الذي هز الغزيين. فكل عناصر الحياة العادية واليومية في المنطقة تم تدميرها مثل المدارس والمكتبات والمخابز والمصالح التجارية الأخرى. وتخشى أعداد كبيرة من الغزيين أنه لم يبق شيء للعودة إليه عندما تسكت المدافع.
وتوصل الكثيرون إلى نتيجة وهي أن الهدف الرئيسي للحملة العسكرية الإسرائيلية هي جعل القطاع غير قابل للحياة وإجبارهم على ترك الأرض التي يعتبرونها وطنهم. ويقول الشوا “يريدون جعل غزة غير قابلة للعيش” و”حتى لو سمحت لنا بالعودة غدا، فكيف سنعيش؟ لقد دمروا بيوتنا واستثماراتنا ومصانعنا وأشجارنا والبنية التحتية وكل شيء”.
ويتحدث البعض في حكومة اليمين المتطرف التي يترأسها بنيامين نتنياهو عن إعادة توطين الغزيين طوعا، فيما أخبر وزير المالية بتسلئييل سموتريتش راديو الجيش الإسرائيلي “لو كان هناك ما بين 100.000 – 200.000 من العرب في غزة وليس مليوني نسمة، فعندها سيتغير النقاش حول اليوم التالي” للحرب. ويشك الكثير من الغزيين أن هدف إسرائيل هي دفعهم جنوبا إلى مصر.
وفي الأيام الأولى للحرب حاولت حكومة نتنياهو إقناع القادة الأوروبيين بالضغط على مصر كي تسمح بدخول سكان غزة إلى أراضيها. ورفضت مصر بشدة المقترحات، إلا أن المخاوف قائمة بخلق نكبة جديدة كالنكبة الأولى في 1948 والتي شردت أكثر من 700.000 فلسطيني. ومن بين سكان غزة هناك 1.7 مليون من أبناء الذين فروا من بيوتهم قبل 75 عاما وتعترف بهم الأمم المتحدة كلاجئين.
واستطاع عدد من الغزيين مثل الشوا الخروج من القطاع بسبب جوازاتهم الأجنبية حيث خرجوا باتجاه مصر، لكن الباقين في القطاع هم مشردون بدون بيوت وعالقون بين الهجوم الإسرائيلي والحدود المغلقة بسبب الحصار. وفي داخل غزة، أجبرت نسبة 85% من 2.3 مليون نسمة نصفهم تحت سن الـ18، على ترك بيوتهم واتجهوا نحو الجنوب حيث يقيمون في عمارات سكنية مكتظة ومدارس ومستشفيات وبنايات تستخدمها الأمم المتحدة.
وتقول الأمم المتحدة إن ربع السكان يعانون من الجوع حيث يصطف الناس لساعات من أجل الحصول على الخبز أو استخدام الحمامات. ولا يعرف الكثيرون منهم إن كانت بيوتهم سالمة أم هدمت. ومن بين المهجرين، محمود رستم، الذي يدرس تكنولوجيا المعلومات في الجامعة الإسلامية بغزة حيث فر والداه وتسعة من أشقائه إلى خان يونس. وعلموا أن بيتهم تضرر لكن لا يعرفون حجم ما تعرض له من أضرار. وتم قصف الجامعة التي كان محمود يأمل بأن ينهي دراسته فيها. لكن ما يحضر لذهن رستم هي الأشياء الصغيرة، مثل دراجته المحطمة وملعب كرة القدم ورفيقه في الركض والذي فقد رجله بقذيفة مدفعية إسرائيلية. وقال محمود، 21 عاما “لن أستطيع الركض، كيف أفعل هذا بدون رفيقي؟” و”لن تكون الأمور كما كانت من قبل ولن أكون كما كنت من قبل”.
وتعود الغزيون على تجميع القطع، فبعد آمال أوسلو وانهيار العملية السلمية واندلاع الانتفاضة الثانية، تعرضت المباني والبنى التحتية لغزة للضرب ومنع الغزيون من العمل في إسرائيل وقيدت حركة البضائع إلى القطاع. وانسحبت إسرائيل من المناطق وبشكل كامل في 2005 مع استمرار السيطرة على الجو والحدود، باستثناء الحدود مع مصر التي تمتد على 12 كيلومترا. وفازت حماس بالانتخابات عام 2006 وأطاحت بفتح في 2007 حيث فرضت إسرائيل حصارا كاملا خنق الاقتصاد منذ ذلك الوقت. وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي العام لغزة في الفترة ما بين 2006- 2022 بنسبة 27% وإلى 1.257 دولارا، حسب يوناكتيد، وهي الهيئة المسؤولة عن التجارة والتنمية في الأمم المتحدة.
وعندما اندلعت الحرب كان ثلاثة أرباع السكان يعتمدون على المساعدات الدولية ووصلت نسبة البطالة إلى 44%. لكن الحياة استمرت بطريقة ما، ووسط الآلام التي عاشها القطاع، تمتع رجال الأعمال والأكاديميون والعاملون في المنظمات الدولية بمستويات معيشة مقبولة. وقد تغير كل هذا بعد هجوم حماس على إسرائيل، فلم يكن السكان الذين عانوا الكثير جاهزين لما سيحدث بعد. وأطلقت إسرائيل العنان لعملية قصف مدو بهدف محو حماس كما قالت. وتبع ذلك هجوم بري، ركز بداية على شمال غزة قبل توسيعه للجنوب وبنفس المستوى من القوة.
وحتى لو توقفت الحرب غدا، فإن حجم الدمار يعني أن الغزيين سيواجهون تحديا لاستئناف حياتهم اليومية. فقد دمرت نسبة 60% من الوحدات السكنية في غزة، وذلك حسب الأمم المتحدة إلى جانب مئات المدارس وعشرات المساجد والمخابز وآلاف من المحلات التجارية وتوقفت نصف المستشفيات في غزة عن العمل. وقال غسان أبو ستة، الجراح البريطاني- الفلسطيني الذي عمل في غزة “لقد تم تفكيك النظام الصحي بطريقة منظمة، وانظر كيف تم تفكيك المستشفيات واحدة بعد الأخرى” و”هل ستسمح إسرائيل بدخول مواد البناء إلى غزة؟ وهذا خارج قدرة الفلسطينيين ويحتاج لتدخل دولي”. ووصف فيليب لازاريني، رئيس الأونروا الوضع بأنه “حرب شاملة”، مضيفا أن “مستوى التدمير مذهل”.
ومثل البقية يخشى عمال الخدمة المدنية الذين شردوا بأن يكونوا هدفا، مخلفين دوائر الحكومة باستثناء عمال الصحة والطوارئ. وقد اختفت حماس من المشهد العام ولجأ مقاتلوها إلى الأنفاق. ويقول المسؤولون الإسرائيليون إن الحرب ستستمر لأشهر، ولا يعرف ماذا سيحصل لحماس أو ما سيتبقى منها ومن سيتولى رعاية الأمن الداخلي. وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي فإن إعادة إعمار القطاع ستكلف مليارات الدولارات، وأكبر من الكلفة المتواضعة للحرب في عام 2014 والتي وضعها الصندوق لإعمار أضرار تلك الحرب وهي ما بين 3-6 مليارات دولار.
ويقول مخيمر أبو سعدة الأستاذ المشارك بجامعة الأزهر في غزة “هذه مثل نسخة مزدوجة عن مدينتين ألمانيتين أثناء الحرب العالمية الثانية، وهذه غزة الآن وتحتاج لبناء كل شيء من الصفر”. وقال إن غزة بحاجة لخطة مارشال خاصة بها، لكن لا أحد يعرف من أين ستأتي.
وقال دبلوماسي عربي إن دول الخليج مثل السعودية وقطر والإمارات ستساعد في إعمار غزة “لكنهم لن يستثمروا إلا بعد معرفة وضع ما بعد الحرب”. ومع أن الدمار أثر على مزاج داعمي إسرائيل في الغرب إلا أن المسؤولين الإسرائيليين أكدوا أنهم لن يستجيبوا للضغط الدولي قبل تحقيق هدفي “الإفراج عن الرهائن وتدمير حماس”. واشترط نتنياهو إعادة الإعمار بنزع أسلحة القطاع و”اقتلاع التشدد” من المجتمع الفلسطيني.
وقال إميل الحكيم من معهد الدراسات الدولية والإستراتيجية إن الحكومات الغربية فزعة من نتنياهو، وتخشى من استخدامه أي نقد لتقوية قاعدته الشعبية في الداخل. وتريد الحكومات الغربية الاحتفاظ بأوراق الضغط لليوم التالي بعد الحرب، مع أنه لا توجد خطة إسرائيلية عندما تتوقف الحرب. وتحدثت الولايات المتحدة عن دور للسلطة الوطنية التي لا تزال تدفع رواتب عمال الخدمة المدنية في القطاع، لكن نتنياهو رفض وقال إنه لا يريد استبدال “حماستان” بـ “فتحستان”. وقدم بيني غانتس، عضو حكومة الحرب رؤية الشهر الماضي عن سيطرة أمنية إسرائيلية على غزة واتخاذها قاعدة انطلاق للعمليات القادمة.
وتقول إسرائيل إنها قتلت أكثر من 8.000 مقاتل من حماس، أي ثلث قدرتها القتالية المكونة من 30.000 مقاتل، وفي الوقت نفسه انخفضت الصواريخ من غزة باتجاه إسرائيل. لكن حماس لا تزال تقاتل و”تحتفظ برهائن” وقادتها لا يزالون بعيدين عن مرمى إسرائيل. وهناك الكثير من الشكوك حول هزيمة حماس أو أيديولوجيتها. ويقول أبو سعدة “حماس لم تستسلم ولن تستسلم” و”هذه جماعة لن تتنازل بسهولة”.