المخاوف مشروعة، لكن مشاريع التفتيت ليست قَدَراً..
لفت انتباهي على نحو خاص ما جاء في خاطرة للدكتور عادل الأسطة تعليقاً على ما ورد في مقالي، يوم الاثنين الماضي، في «الأيام» حول دويلات الطوائف والمذاهب والأعراق التي يُخطّط لها التحالف الأميركي الصهيوني، خصوصاً بعد أن تمكّن هذا التحالف من الإطاحة بنظام الأسد في سورية على أيدي قوى خارجية، ومنظمات إرهابية، دون أن نغفل بطبيعة الحال المشاركة الفاعلة من قوى شعبية سورية فاعلة ونشطة مهما كان حجمها الحقيقي ــ وليس الإعلامي فقط ــ ومهما كان لها وعليها من ملاحظات.
في يومياته وخواطره يُعرّج الأسطة على قضايا يُحسن تناولها، إما منبّهاً أو لافتاً أو مستفسراً، وكان له في هذه الحرب الإبادية تنبيهات مميزة، وخصوصاً لجهة الأوضاع في قطاع غزة على غير مستوى وصعيد.
لكنني شعرت أن من الواجب ــ قبل تناول انعكاس الزلزال السوري على فلسطين أن أُبيّن بقدر ما أتمكّن وأستطيع، أن المخاوف من مشاريع التفتيت هي مخاوف حقيقية، وليست متخيّلة على الإطلاق، وأنها ليست قَدَراً على شعوب الأمة، وأن فشل هذه المشاريع وارد مهما بدت الأمور وكأنّها حالة «ميؤوس منها».
سأبدأ من التناقضات الصارخة التي ستطفو على سطح المشهد السوري بعد عدة شهور فقط، إن لم نقل عدة أسابيع.
مشروع التفتيت لا يمكنه أن يتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام دون أن تكتمل خطة إقامة الدويلة الكردية في سورية.
النظام التركي يعتقد واهماً ــ وأُشدّد على «واهماً» ــ أنّ التحالف الأميركي الصهيوني لن «يبيع» الحليف التركي بهذه البساطة والسهولة، إن لم يكن بسبب الخدمات الجليلة التي قدّمها لهذا التحالف، فبسبب موقع تركيا الجيواستراتيجي بالنسبة لسورية والعراق وإيران، وبسبب عضويتها في «حلف الناتو»، وبسبب تأثيرها الهائل على «جماعات الإسلام السياسي» الرسمية كـ»الإخوان المسلمين»، إضافة إلى دوره الجديد على هذا الصعيد بالذات حول تأثيرها على هذه الجماعات الإرهابية التي يحتاجها المشروع الأميركي الصهيوني لمرحلة انتقالية لا بدّ منها.
وبهذه المعاني كلها فإن الاعتقاد التركي، والمراهنة بالتالي ليست عقيمة تماماً، مع أننا سنرى أنها مراهنة تفتقر إلى الدقة والعمق، وتقفز عن حقائق ومديات الطابع الجذري للمشروع الأميركي في الإقليم، انطلاقاً من حيوية الإقليم المتجدّدة في إطاره، وخصوصاً في مرحلة ما بعد «طوفان الأقصى»، والتحولات الدولية القادمة بسرعة كبيرة.
الأوهام التركية من أن الإدارة الأميركية، المغادرة والقادمة على حدّ سواء، وإسرائيل معهما، وربما في المقدمة منهما ستقبل أن تظلّ سورية موحَّدة حتى ولو قدّم أحمد الشرع «الجولاني» كل أشكال الطاعة لهذا التحالف هو محض هراء سياسي مضحك.
لا سبيل أمام إسرائيل، وأمام الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل الإمساك بزمام الإقليم سوى أن تكون هناك مرحلة انتقالية فقط، وقصيرة حتى يُصار إلى محاصرة إيران، والوصول إلى حدودها البرّية.
يستحيل أن يتمكّن التحالف الأميركي الصهيوني الوصول إلى تلك الحدود دون إثارة المسألة الكردية في إيران نفسها، ولن يكون ممكناً هذا الأمر إلا إذا كانت «كردستان العراق» قد أُدخلت في لعبة الدولة الكردية الكبرى، بعد أن تتم إقامة الدويلة الكردية الصغرى في سورية، لينضم إلى هذه الجهود الجنوب التركي ذو الأغلبية الكردية.
التحالف الأميركي الصهيوني لن يعتبر نفسه قد ربح الحرب العدوانية التي تؤهله لإعادة بناء الشرق الأوسط وفق مصالح هذا التحالف دون إجبار النظام الإيراني على الرضوخ التام، أو القتال على جبهته الداخلية من خلال «الأكراد»، وكذلك «المعارضات» التي ستنشأ عن هذه الحالة، لكي تتم في النهاية مهاجمة النظام براً، خصوصاً أن الهجمات الجوية لن تحلّ الأزمة، ومحفوفة بمخاطر كثيرة.
هنا ستعود تركيا إلى الحضن الروسي والإيراني وليس أمامها من خيارات أخرى للدفاع عن وحدة أراضيها ولن تقبل موسكو وطهران بأقل من شروط قاسية على نظام «السلطان»، وهنا، أيضاً، ستلعب تركيا ورقة «الجولاني»، وورقة «الإخوان المسلمين» من موقع رفض «السلم الأهلي»، ورفض التعاون مع التحالف الأميركي الصهيوني، وربما خروج تركيا من «الناتو»، أو اللجوء إلى تحالفات عربية وإسلامية كان قد غدر بها وتعاون مع «الغرب» ضدها.
في الداخل السوري، ستنشب «داحس والغبراء» بين حوالى 40 تنظيماً إسلاموياً، كلّ له اتجاهاته الفكرية العقائدية، وارتباطاته الخاصة، وتمويله «المستقل».
لن يكون سهلاً على الإطلاق، فوراً ومباشرةً بعد البدء الأميركي والصهيوني بخطة الدويلة الكردية في سورية، وأغلب الظنّ مباشرة باتجاه «الدويلة» الدرزية في سورية، لن يكون سهلاً أن تنفجر الحروب ما بين كل هذا الخليط الذي لم يجمعه سوى القبول بدور ما قامت به «المعارضة» العراقية في مرحلة إسقاط النظام، وتدمير الجيش وإضعاف الدولة العراقية، بعد إسقاط نظام الأسد، والعمل بكلّ الوسائل على الولاء التام للمشروع الصهيوني وتسوّل الاتفاق السياسي معه.
والفرق الأكبر بين ما تمّ في العراق، وما يتمّ، اليوم، هو أن إيران كانت راعية لـ»المعارضات» التي قصمت ظهر العراق، في حين أن تركيا التي تقف وراء هذه «المعارضات الإسلاموية» في سورية هي التي ستكون مستهدفة بعد عدة أشهر فقط، وهي التي سيُضحّي بوحدتها التحالف الأميركي الصهيوني، وهو ما كان عكسه تماماً في إيران، إذ تمّ التنسيق مع إيران، ولم يكن هناك ما يهدّد إيران جراء إسقاط نظام صدام حسين، إن لم يكن العكس تماماً هو الصحيح.
وخلاصة القول هنا، إن مشروع التفتيت والدويلات، وبنائها على أسس دينية وطائفية وعرقية ومذهبية، وغيرها يحتاج إلى الفوضى وليس إلى الاستقرار السياسي، ويحتاج إلى رضوخ تركي لمشروع تقليص دورها ومكانتها وليس تعزيزها، ويحتاج إلى «ضبط» عشرات المنظمات الإرهابية في بوتقة سياسية تستحيل في ظلّ معطيات، ومقدّمات المشروع الأميركي الصهيوني الجديد.
وسواء سقط النظام «السلطاني» في الفخّ الأميركي الصهيوني أو أنه سيتمكّن من الإفلات منه، فإن «العالم العربي القريب» سيدافع عن وجوده المهدّد بطرق ووسائل مختلفة عن «جولات وحملات» الاستنكار التي «جابه» بها حرب الإبادة الصهيونية على فلسطين ولبنان.
كما يواجه المشروع الأميركي الصهيوني عقبات أخرى إضافية ليست على درجة أقلّ أهمية من العقبات التي أتينا عليها.
أقصد أن دولة الاحتلال «تنتصر» في سورية ليس بسبب أي انتصار صنعته هي بقوتها العسكرية، وهي لم تحقّق نصراً حقيقياً في لبنان، وهي لم تنتصر نهائياً في القطاع، وهي ذاهبة إلى صفقة تحقق لها نصف انتصار ميداني، ونصف هزيمة سياسية على مستوى ما كانت تطرحه من أهداف لحربها الإجرامية على القطاع، وهي في لبنان خرجت من الحرب العدوانية بمشروع نصفي آخر، فالمقاومة في لبنان باقية، ولم تهزم ميدانياً، ولهذا فإن صورة الانتصار «المطلقة» مرحلياً في سورية لا تكفي دولة الاحتلال للانتقال إلى مشاريع حرب فورية ومباشرة.
أمّا أزمتها الداخلية فهي ــ كما أرى ــ غير قابلة للحلّ، وأزمة الولايات المتحدة بعد توقّف الحرب في أوكرانيا لا تسمح لها هي، أيضاً، بالانتقال الفوري إلى حروب مباشرة حقيقية قبل تأمين عناصر جديدة ليست متوفرة حتى الآن.
صحيح أن المشروع الصهيوني اكتسب زخماً كبيراً بعد سقوط نظام الأسد، وصحيح أن بنيامين نتنياهو أصبح بمقدوره الآن أن يتحدّث عن نصر يمكّنه من إجراء بعض التعديلات والمساومات والتراجعات دون أن يحسب عليه جماهيرياً، لكن الصحيح، أيضاً، هو أن «المحاكمات» وكذلك حروب «التسريبات» والفضائح التي ستنفجر بُعيد «الصفقة» في ضوء التحقيقات التي ستجرى بكل جدّية وسرعة ستكشف مدى الخلل الذي أحدثته السياسات التي يتبنّاها «اليمين» الفاشي في بنية الدولة والمجتمع، وحينها ستعود «انتصاراته» إلى حجمها الحقيقي، وليس إلى حجمها الإعلامي الصاخب.
لقد آثرتُ أن يتمّ تأجيل الكتابة عن آثار الحدث أو الزلزال السوري القادم حتى لا نُصاب باليأس والإحباط بسبب أو من دون سبب، وحتى نوقن أن نجاح المشروع المعادي لشعبنا وأمتنا ليس قَدَراً.