اخبار

أكثر من مجرد خلاف سياسي..

منذ اندلاع «طوفان الأقصى» ونحن مختلفون ومنقسمون في الآراء، وهذا الاختلاف بحد ذاته طبيعي ومشروع.. الإشكالية في كيفية التعاطي معه، مع قناعتي بأن كل ما يُقال وما يُكتب وما يُنشر لا يساوي دمعة طفلة غزية أفقدتها الحرب بيتها وأهلها، أو رجفة عجوز ينتفض من البرد، أو حزن تلميذ على مدرسته المهدمة، وكل آرائنا من مؤيدين ومتحمسين ومعارضين ومنتقدين أصغر بكثير من قدم طفل بترتها آلة القصف الهمجية، وكل خلافاتنا الفكرية والسياسية تتقزم إلى حد الضآلة إذا ما قورنت بعذابات عائلة تبيت في خيمة بليلة ماطرة. وكل تقارير الصحافة وبلاغة المراسلين أعجز من أن تصف استشهاد طفل جائع سقط في قِدرٍ يغلي؛ بعد أن وقف طويلاً في طابور مزدحم بالفقراء على أمل حصوله على كوب عدس.

وكل التقارير الإخبارية، وتحليلات من يسمّونهم خبراء ومختصين، وكل منشورات الـ»فيسبوك»، وتعليقات المتابعين، وحواراتنا الساخنة، وسجالاتنا العقيمة، وتبادل الاتهامات.. كل ذلك محض هراء وترف فكري زائد ومزاود مقارنة بمعاناة الغزيين، كلها لا تعادل قطرة دم لمقاوم شجاع يتصدى لجيش الغزاة، ولا تعادل حسرة أمّ على ابنها، ولا حزن أب على بيته المهدّم، ولا قلق شاب على مستقبله الضائع، ولا إحراج فتاة تبحث عبثاً عن متر مربع يوفر لها بعض الخصوصية.. وكل آرائنا لن تطعم جائعاً، ولن تحمي خيمة من القصف ولا حتى من المطر.
لا أقلّل من أهمية الكلام، والإعلام، وضرورة النقاش والنقد، وحق الجميع في التعبير، وأهمية الكتابة والنشر والتوثيق، ومشروعية التنوع والاختلاف، شريطة أن ننحني بخشوع واحترام أمام كل مواطن غزي يعيش في قلب المأساة، وفي عين العاصفة.. أن ننحني تواضعاً أمام خوفه وانكساره وحيرته وقلقه وشجاعته وتردده وحاجاته الإنسانية غير المُلباة، وأمام آرائه ومتطلباته سواء بدت غريبة أو منطقية.
ومع ذلك، ونُصرةً لغزة وكل فلسطين، وانحيازاً للجماهير المسحوقة والناس الذين عانوا وصبروا، وشربوا البرد والخوف وتجرعوا المأساة بكل أهوالها، وخسروا بيوتهم وأبناءهم وذكرياتهم وحاضرهم ومستقبلهم، يجب أن نكتب، وأن نعلي صوتنا، وأن ننتقد بشجاعة، ونحلل بوعي، ونفكر بضمير وطني، ونشعر بحس إنساني.. وأن نرتقي بخلافاتنا، ونسمو فوق العصبيات الحزبية والاصطفافات الأيديولوجية. نكتب لأن معركة الوعي مهمة تسبق وترافق التحرر الوطني، وهي شرط لإحراز النصر، ولأن معركة انتشال الوعي من الحزبية والقبلية والطائفية أصعب من معركة التحرير نفسها.
ولو عدنا قليلاً للوراء سنجد أن الخلاف بدأ (أو تفاقم) بعد العملية الفدائية في 7 أكتوبر، والتي على إثرها شنّت إسرائيل عدوانها السافر بكل ما نجم عنه من كوارث ونكبات.. لم يكن خلافاً على مبدأ المقاومة ومشروعيتها وأحقيّتها، فهذا موضوع إجماع عند الشعب الفلسطيني منذ مائة سنة، الخلاف كان حول أسلوب «حماس» المتفرد في المقاومة، وفي نظرتها باستخفاف إزاء التضحيات البشرية والمادية، وإهمالها أو تقصيرها في إدارة الجبهة الداخلية والإعداد للمعركة.
في البداية كانت مجمل الآراء مؤيّدة ومتحمسة، وقد اكتسبت حينها «حماس» شعبية جارفة، خاصة خارج غزة، فالمعنويات عالية، والحرب في بداياتها، ووعود النصر وتحليلات الخبراء تنعش عواطفهم المكبوتة، وتعوّضهم عن سنوات الهزائم والظروف البائسة والمذلة التي يعيشونها.. أصوات قليلة اعترضت ونبّهت لخطورة الموقف، بعضهم استغل الحدث للنيل من «حماس»، من منطلقات حزبية وفئوية، وكتصفية حسابات سياسية قديمة.. وبعضهم شعر بالغضب لأن «حماس» تقاوم بينما هو عاجز ومتفرج، وعلى هامش الحدث.. وهذا نهج مرفوض ومدان.. وبعضهم انطلق من تخوفاته من تداعيات العدوان، ومن فهم سياسي واعٍ مبنيٍّ على حسابات عسكرية وسياسية منطقية. وفي المقابل، بعضهم دافع عن «حماس» باستماتة وتعصّب دون الأخذ بعين الاعتبار أي شيء آخر، أو لأنه مع كل من يحمل بندقية ويواجه إسرائيل مهما كانت دوافعه ومرجعياته، وبعضهم كان خائفاً على مصير ومستقبل «حماس».
أبناء «حماس» وأنصارها اتخذوا موقفاً متشدداً ومتشنجاً ضد كل من ينتقد الحركة، أو ينتقد أسلوبها في المقاومة، أو يشكك أو يطرح أسئلة أو يشير إلى حجم الكارثة المهولة التي لحقت بغزة، مستخدمين عبارات «ليس وقت النقد»، «لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة»، «المقاومة مقدسة»، «المرجفون في المدينة».. وكل هذه الشعارات عبارة عن إرهاب فكري وقمع لكل محاولة نقد وتصويب.
في واقع الأمر هذا الموقف المتشنج الرافض لأيّ نقد ينطلق من حالة قلق عميق على مستقبل ومصير «حماس»، والخشية من تعرضها لمحاكمة تاريخية (محاكمة شعبية، وعلى مستوى الوعي)، فلو استقر في أذهان الغالبية أنَّ «حماس» هي التي جرّت الشعب الفلسطيني إلى حرب خاسرة، وبالتالي هي مسؤولة عمّا حدث.. ولو ساد اقتناع شعبي عام بأنَّ مقولات «حماس» عن «التضحية»، «ولا بأس من استشهاد مليون فلسطيني»، «وحتى آخر طفل فينا».. هي مقولات شعاراتية وغير مسؤولة، وتدل على نهج مغامراتي متهور في إدارة الصراع.. ماذا سيكون مصير الحركة؟ خاصة بعد انتهاء الحرب، دون تبييض السجون، ودون فك الحصار عن القطاع، ودون تحرير القدس، ودون إيقاف عربدة المستوطنين.. بل بالعكس، حين يتبين بوضوح أن غزة نفسها قد احتلت، وخسرت نحو مائتي ألف قتيل وجريح، وتدمر معظمها، ولم تعد صالحة للعيش، وكل وعود النصر والرهان على محور المقاومة، وزحف الشعوب العربية والإسلامية إلى الحدود.. كل ذلك كان مجرد أوهام وتمنيات ولكن بخسائر كارثية!!
محاكمة الشعوب لقادتها وأحزابها الحاكمة ممارسة معروفة ومألوفة، تجري بشكل عادي في الدول المحترمة، وسبق للشعب الفلسطيني أن أجرى محاكمة عادلة لحركة «فتح»، سنة 2006، حين أحجم عن انتخابها وأعطى أصواته لـ»حماس»؛ لأن الشعب أراد معاقبة «فتح» على ما رأى منها من فساد.. ودوماً الكلمة الأخيرة للشعب؛ لأنها الأصدق من كل الشعارات.
والحس الوطني الصادق والمسؤول لا يهمّه تصيّد الأخطاء والعثرات، ولا يسعى لإسقاط حركة قدمت الكثير من قادتها وكوادرها على مذبح الشهادة. المسألة ليست كذلك، المسألة محاكمة الأسلوب والنهج، ومراجعة الشعارات والرهانات، وكشف الأخطاء والمقولات التي قادت إلى الكارثة، وألا نسمح لأحد بالتهرب من مسؤولياته.. وهذا يشمل بالضرورة محاكمة ومساءلة الجميع: «فتح» والسلطة والقيادة وسائر الفصائل، ومراجعة وتقييم الخط السياسي، وممارسة نقد ذاتي بنّاء وجريء.
يكفينا ما ارتكبناه من أخطاء وخطايا بحق قضيتنا، وأننا لم نُجرِ مرة واحدة مراجعة شاملة وشجاعة لمسار الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى العقود الماضية.  
ولطالما أسقطت الشعوب الحية والواعية قيادات وأحزاباً كانت تظن أنها مخلدة، وفي منأى عن النقد والمحاسبة.. ومن حق الشعب أن يختار قيادة لا تجره من حرب إلى حرب، ومن كارثة إلى أخرى، دون تحقيق أي منجز حقيقي، قيادة لا تحكمه بالقمع ولا ترهقه بالضرائب، ولا تغرقه في المزيد من الأوهام والتمنيات، والانتصارات «الدونكيشوتية».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى