اخبار

سأحدّثكم عن جزيرة الكنز.. هنيئا لكم بمحمية جديدة اسمها سورية..

كتب د. ادريس هاني:

يضعنا روبرت لويس ستيفنسون الكاتب الأسكتلندي الشهير أمام صورة نفسية حقيقية لتنازع الخير والشر، وهما قوام القصة القصيرة والرواية الحديثة. المهم هنا أنّ الذهنية الأنكلوسكسونية التي سيراهن عليها كلّ من وافق هنتنغتون على موقفه من فكرة صدام الحضارات، ومنهم ترامب الذي يملك رؤية تسير في الاتجاه نفسه،أي كيف تجلب المال وتغلق الحدود، هي إذن بالأحرى ذهنية عجيبة لها مقدمات ولها آثار مدمّرة لمفهوم السياسة الدولية. كان الكاتب الاسكتلندي قد أظهر جانبا منها في رواية جزيرة الكنز ذائعة الصيت، كيف ينطوي كلّ من في السفينة على خطّة لبلوغ الكنز قبل الآخر، سباق وكراهية وحرص. تلك هي ذهنية القرصان. لكن الكاتب له حكايات أخرى مع هذه الذهنية الغرائبية، كما استيقظ ذات مرّة ليجد نفسه يحلم بغريب الفظاعات.
لقداستلهم ستيفنسون من رفيقه يوجين شانتريل الذي قبل أن يحاكم بقتل زوجته بتسميمها بالأفيون كان يبدوا طبيعيا. الدهشة التي ستنتابه عند إصدار الحكم بالإعدام لا تختلف حسب جيرمي هودجر عن دهشة الدكتور جيكل من أفعال إدوارد هايد في رواية ستيفنسون في روايته الأخرى: القضية الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد(L’Étrange Cas du docteur Jekyll et de mister Hyde).
ثمّة ما يجعلني أقرأ لأحداث من زاوية ذهنية القراصنة وغرائب الجرائم، وتماما كستيفنسون، سنستيقظ على صرخة من هول ما نرى. إنّنا أمام مشهدية من جزيرة الكنز، خريطتها بيد بطل يرى من الأولى التعبير عن سُكر القوة بقوة السخرية،ولكنه جادّ كقرصان في استجلاب الخراج. لكن مهمّ جدّا فكرة التسميم بالتحشيشة الاستراتيجية للحلفاء. حكاية صديق ستيفنسون.
لا أستطيع أن أحصي حجم الترليونات التي حصدها ترامب، وهو يعلن عن خطوة ناجحة لمشروعه القاضي بأن ليس لنا أمام الحلفاء سوى أن نمنحهم بعض العبارات من حسن السلوك، لقد انتهت المسرحية وظهر المضمون.

ندرك أن ثمة ما يجب أن نتفهّمه: من أين يا ترى يأتي كل هذا الحجم من الرُّهاب؟ هل توجد طريقة أخرى لمكاسب استراتيجية من دون ثمن باهض كهذا؟ يا خوفي على العرب؟ يا شفقتي على هذا المصير؟
البعض يعتقد أن ترامب كان يقدم شروطا للإدارة الجديدة المنحدرة من زمن ما قبل الدولة، وهم حتى الآن لم يفهموا المسرحية. أقرأ في مضمون الخطاب الإعلامي اليوم للمحطات التي احتلت دمشق بجبن، حملها الكنغر في جيبه، تتحدث عن تحولات تاريخية ومستقبل باذخ في سوريا الجديدة، أي “اللاّسوريا”، نظرا لكياسة الإدارة الجديدة، ونظرا لتداخل المصالح، كما لو أنّ الإدارة الجديدة تملك رأيا في كل ما جرى.
ومع ذلك لم يثر اهتمامنا كل هذه الفصول النكدة من مسرحية أدركنا منذ افتتاحها حقيقة مضمونها، ولا داعي أن نستعيد تلك التفاصيل التي سخر منها من سخر منهم اليوم النمر الوردي، بقدر ما أثارنا انقلاب الصورة وتلوّي الخطاب لدى عبيد المنزل، تيار الإخوان الذي بات يبرر بيع بلد كبير كسوريا، من خلال مغالطة تعميم القول، ومحاولة التهوين من بيع سوريا في سوق النخاسة. هذا كلام لا يحمل في طياتها كيدية أو خلفية كما أدمن رواد الإسقاط المرضي في الخطاب الساسي الملوّن، بل هي شفقة ونحن نتابع فصول اختفاء بلد من الخريطة. ليست لنا أي مصلحة – بقدر ما توجد المصلحة هناك – لكي نبارز الخونة بهذا الموقف، الذي ليس له من سند سوى الإيمان بالمبدأ. صحيح أنّ الإخوان هم أقل من أن يلعبوا هذا الدول الجيوستراتيجي، ولكنهم كخنجر في الخاصرة يستطيعون أن يلعبوا مقابل التمكين دور حصان طروادة قبل أن يحترق.

سوريا اليوم باتت بمقاس من ينبطح لرفع عقوبات مقابل تقويض الأرض والسيادة. وبكل وقاحة، يقول إعلام الرجعية: إنّ هناك إعادة إعمار ورفع العقوبات. والمقابل: اقتطاع الجولان، نفط الشمال، قواعد أمريكية في الشمال وفي الساحل، تطبيع بات محرّما عند الإخوان في مصر، لكنه مبارك في دمشق، طرد الفصائل الفلسطينية.
بالأمس كان الحديث عن الإستبداد وتكميم الأفواه، فمن يكمم الأفواه اليوم، لأننا لم نسمع رأي الشعب الذي دافعت عنه الإئتلافات البهلوانية بطريقة مخاتلة. ما هي حكاية انقلاب المفاهيم؟ وكيف يصبح المطلوب للعدالة يوما هو نفسه رمزا للسلام؟ لم تستغرق المسرحية أكثر من 13 عاما، لكي تكشف عن مخرجاتها المرعبة، هل المنطقة دخلت عصر المحميات؟ يا لطيف!!
حين أسسنا بمعية المرحوم عمران الزعبي وزير الإعلام أنذاك، شبكة دمشق الدولية: إعلاميون ضدالإرهاب، كنّا واعين جدّا بما ينتظر سوريا إن استمرت المسرحية إياها. لم نؤمن فقط بذلك، بل صرحنا بأنّ الإرهاب وظيفيّ، وبأنّ الزمن الموضوعي لهذه الحرفة هو استراتيجي مؤقّت بمحصول سياسي، ولا يهمّ أن يعرف الأغبياء القصة المروية فيما بعد كجزيرة الكنز. من عيّروا النظام السابق بأنه لم يطلق رصاصة واحدة في الجولان منذ عقود، ها هم يبيعونها بمقابل التفاتة مجانية من هرقل الساخر من العقل السياسي العربي، وهو يستحق الإعجاب، لأنّه يفرض الوضوح على نفسه وعلى مَحَاوِرِه.
المعجبون بثورجية النمر الوردي، عليهم أن يزفوا هذا الإنجاز العظيم، دعك من الدول والسياسات، فتلك آراؤهم ومواقفهم، يهمّني رأي العبيد الذين تغنّوا كالصّرصار باسم الحرية والثورة؛ هل رأيتم ثورة تأتي بالذّل وسقوط الأوطان؟
سوريا التي نعرفها اختفت وباتت نوطة متعالية في المُثل الجميلة، صورة من لم يُوقِّعوا ولم يرضخوا ولم يتاجروا بالسيادة، سوريا ما قبل التتار الجديد، لكنها سوريا الشاهدة على زمن الانحطاط، وهي التي ستبقى في ذاكرة الأجيال جرحا لا بدّ من أن يلتئم. ليست هي المرة الأولى التي ستُستباح فيها الشام، لكن السلام في المنطقة لا تصنعه القرصنة والإرهاب والمتاجرة بالأوطان. للسلام طريق واحد: سلام الشجعان، لكن الشجاعة باتت اليوم فكرة معكوسة: الشجاعة في المتاجرة بالسيادة.
من المؤكّد أنّهم لم يجدوا في سوريا من يلعب هذا الدّور، وإن كان هناك من ساهموا في هذه الحرب، ليس هناك بديل غير هؤلاء، لأنّ الشعب الصامت غير راضي على هذا الوضع الذي لم يتربّوا فيه. اليوم يطلبون من رأس الإرهاب أن يقضي على نوابت الإرهاب التي نشأت في سياقه، أي من خرجوا عن الوظيفة. دخل النمر الوردي سلك الوظيفة الجديدة: عبيد المنزل.
إنّ سراق الله والأرض والمفاهيم والمعنى، يحاولون استضباع الأمم، وهم في الحقيقة يؤكدون على أنّ البلد الذي لطالموا شنعوا عليه وتطاولوا عليه، بالفعل هو عرين العروبة بيت حرام. لم يتغير نشيدة الكرامة، بل تغير مضمونه، حتى باتت دمشق قلب العروبة النابض، قلب المتاجرة في السيادة والمستقبل. من هو النعامة في الحروب أيّها (البّاندية)..هنيئا مرة أخرى لمن تكلّف كثيرا ليخفي هذا الواقع الذي الْتَفّ عليه الخونة.. هنيئا لكم بمحمية جديدة إسمها صرصوريا..
كاتب ومفكر مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى