اخبار

الخامس من حزيران هي خسارة لا نخجل منها.. وناصر لم يسقط..

كتبت د. لينا الطبال:

منذ الولادة، نحمل في جيناتنا رواية الهزيمة. نحن الجيل الذي ولد بعد النكسة، لم يسمع خطاب التنحي، جيل ما بعد الخامس من حزيران… يقال ان الجنين يملك ذاكرة قد يكون شعور بألم ورثه عن امه او والده قبل ان يتكون له قلب… هي ذاكرة ما قبل الحكاية، ذاكرة تبدأ بندبة الوطن، قبل أن يعرف اسمه.

هذا ليس مقال عن نكسة الخامس من حزيران، انه مقال عن البطل الذي تشكل في وعينا قبل أن نولد، قبل أن نتكون، قبل أن تعرفنا أمهاتنا وأجدادنا. وهو لحظة الفرح التي عاشتها أجيال قبلنا…
لم يحدثني أحد عن عبد الناصر، لم يرو لي جدي عن خطاباته، ولم يهمس لي والدي بشيء عن تأميم القناة أو النكسة، لا أدري كيف التقطت هذه العدوى من زمن لم اولد به. تعرفت على عبد الناصر كشخصية صامتة، صورة معلقة في بيت جدتي الإقطاعية، لم تكن هناك صورة لأحد سواه، ولا حتى لآيات قرآنية.

هل مازلت تسأل لماذا بعد 55 عاما من وفاته، لا يزال ناصر يربكهم؟
سأترك لك هذا الجواب هنا:
لأنه، بكل بساطة كان هذا القائد العربي الذي لم يبع الأمة، لم يسرقها ويهرب.
كرهته الأنظمة العربية أكثر مما كرهت إسرائيل. الكل كرهه لأنه اجتهد في بناء أمة، لا في ترويض قطيع.
هو قال “ارفع رأسك يا أخي” فرفعناه، … ولا زلنا نرفعه، رغم كل محاولات التشويه والتقطيع والتخدير التي يمارسها أعداؤنا، في الداخل والخارج.
لذا، نعم… بعد اكثر من خمسون عاما، لا يزال عبد الناصر يربكهم.
لأنه لم يمت بالطريقة التي اراد أعداؤه ان يموت بها، موت مضحك، تافه، يشبه نهايات الملوك والرؤساء العرب في منافيهم وعلى عروشهم او في جمهورياتهم الورقية. كان العدو الوحيد الذي لم يربت على كتف إسرائيل. فخافت منه وهو حي، ويبدو انها تخاف منه ميتا أكثر. حتى اليوم لا تزال “الله أكبر… فوق كيد المعتدي” ترعب هذ الاحتلال.
لقد مات ناصر وهو واقف بكامل اناقته وهيبته، مريض القلب نعم، محاصر بالهزيمة لا نبالي، لكنه لم يسلم الروح لفكرة الاستسلام. لم يهزم. ومات الناس بعده الآف المرات…
ما زلنا نعود اليك يا قائد كلما سقط نظام، أو هزم جيش، أو باع زعيم شرفه وما اكثرهم.
لم يقتلونه حين مات. لكنهم يعدمونه بخبث في المناهج المدرسية، في كل كتاب محا اسمه، ويخنقونه على فضائيات العار، يتهامسون حول ديكتاتوريته، ويحاكمونه كل يوم.
اسمعوها جيدا اذا: الخامس من حزيران هي خسارة لا نخجل منها.
ما نخجل منه هو هذا الصمت العربي الفاقع. القدس حشرتها إسرائيل ضمن خارطتها السياحية-التربوية…. المسجد الأقصى، تم ادراجه في مناهج الدراسة الصهيونية. لجنة التعليم في الكنيست تفتح أبواب المسجد أمام الطلاب لترسيخ “حق العودة” إلى ما يسمى جبل الهيكل. تغرس الفكرة وتسقيها بجرعات من الحقد في نفوس اطفالها، أما الصغار من أبناء المستوطنات، فتراهم يركضون في أروقة وباحات الحرم، يفتشون عن إرث يقول المقرر الدراسي انه لهم. إضافة الى مواصلة الاستيطان المتوحش تتابع اسرائيل تهويد الوطن، بـ”الرينجر” العسكري، بالدروس اليومية، وبرحلة مدرسية.
اعلامنا العربي الواهن يذكر فلسطين في المجازر فقط. يعرض صور الدم والدمار والاشلاء ليؤكد أن الحل هو في طمأنة إسرائيل. نعم، طمأنتها! إسرائيل مراهقة خائفة تحتاج الى حضن عربي… ثم يذكر فلسطين في مناسبات رمضانية أو خطبة جمعة لا اكثر… العرب، ما زالوا يظنون أن تقديم الورود بدل الرصاص سيقنع القتلة بترك حدائق الدم!
في لبنان تخيل معي الدولة حامية السيادة (نظريا)، تراقب المقاومة، تتعقب أنفاسها. لكن استعد للمفاجأة: الموساد يتجول بحرية، يشرب القهوة في الجميزة، يمر بجانب قصر العدل، يبتسم للكاميرات الأمنية، وربما يهمس للسلطة هناك: “عمل جيد يا رفاق”.
كل أنواع الطائرات الإسرائيلية حلقت فوق رؤوسنا. المسيرات تتسلى بأجوائنا، تعبرها بلا تصريح، وبلا خجل ايضا. تطير من الشمال إلى الجنوب، من الشرق إلى الغرب، فوق البيوت وتحت الغيم، كأنها تلعب Play Station تقصف، تحرق، تقتل، تغتال. سماء بيروت الجميلة اصبحت حقل تدريب لألعاب الاحتلال!… اتفاقية 1701 تم نصها فقط لحماية امنهم…من قال ان اسرائيل تطلب الأمان؟ اسرائيل تطلب القضاء على قوميتنا… تريدنا أن نختفي.
الناس هناك لم تعد تخاف، الناس مرهقة فقط!  بين من يحصي عدد الطلعات الجوية، ومن يحصي عدد الفواتير، ومن يحصي عدد الضحايا والجثث.
لا تسألني اين السيادة. لا سيادة هنا … لكن اطمئن كل شيء على ما يرام في جمهورية اللافعل اللبنانية.
حان الآن وقت العودة إلى الوطن، إلى سوريا التي اصبح حبها مرضا…. كل صباح، نصحو على نسخة جديدة منها: واحدة تتعلم العبرية، وقد بدأت تتقنها، وأخرى تجلس في المؤتمرات تنكر المجازر، تنفي القتل.  وثالثة تنتظر توقيع معاهدة سلام. في هذه الأثناء يا سادة، وبينما تقرؤون هذه الكلمات، “يمدُ” الإسرائيليون السجادة الحمراء للجولاني، عفوا… لفخامة الرئيس أحمد الشرع، تحضيرا لزيارته التاريخية إلى القدس…
 يا للمهزلة!
ما يجري في سوريا هو انهيار بحجم وطن. بلد قُصف من الجو بالبراميل، ثم قُصف بالطائرات الإسرائيلية، ثم قُصف بأسئلة عقائدية.  ثم فُخخ من الداخل.. ثم تم تغيير علمه… حلم الوحدة وتاريخ القومية العربية الدائم.
كل هذا ليس إلا مضاعفات جانبية لجرعة سامة واحدة: إسرائيل!
صراعات تتمحور حول نفي الحق العربي، وسحق من تبقى من الحالمين بفلسطين وسوريا ولبنان. هل توافقني الرأي ان لا أحد يهجر شعب، ويقسم وطن، ويمول النخب المزيفة، إلا كيان يعرف جيدا أن وجوده نفسه مهدد ؟؟…
ما قاله عبد الناصر كان نبوءة باردة: “وجود إسرائيل هو عدوان مستمر”، عدوان على التاريخ، على الجغرافيا، على اللغة، على الهواء.
ما زالت صورة عبد الناصر، وهو يرفع يده في خطاب غاضب، تثير فيهم خوف لا تقدر عليه آلاف الصواريخ. حتى اليوم، حين يجري بث صوته في جنازة، في مظاهرة، في حنجرة مراهق، تهتز منصات العدو وتدمع صور الشهداء.
صورة واحدة لعبد الناصر في زقاق فلسطيني معتم، ترعب هذا العدو…. ترعبه أكثر من المحكمة الجنائية الدولية، وأكثر من مجلس الأمن وبيانات الأمين العام حين تبدأ: “نشعر بالقلق البالغ”.
قيل لنا ان ناصر سقط، وإن مشروعه انتهى.
لم نر بعده الا جثث سياسية عفنة تتشبث بالكراسي، توقع على اتفاقيات سلام وتنكس رؤوسها باستسلام.
ثم قامت المقاومة في جنوب لبنان، في فلسطين في اليمن وفي العراق لتذكرنا فقط أننا ما زلنا أحياء بالخطأ.
هذا الصمود الأسطوري لغزة هو انتصار!
 حزب الله، الجبهة الشعبية، المخيمات، وحتى صواريخ عياش 250 والقسام التي تخرج من غزة وتذهب الى تل ابيت وبئر السبع. والى مستعمرات سديروت، اشدود، اشكلون، نتيفوت… كلها بقايا من حلم ناصري لم يدفن وهو مازال حي.
كلمة السر القديمة لا تزال صالحة: “ما اخذ بالقوة لا يُسترد بغير بالقوة”.
نعم يا سادة إسرائيل بالإمكان هزيمتها، هي كيان أوهن من بيت العنكبوت مهما امتلكت من قنابل ذكية وجنرالات أغبياء.
نحن جيل الانتصارات، جيل تحرير الجنوب بسلاح المقاومة، جيل السيد حسن، النصر الإلهي، والوعد الصادق… جيل غزة، مخيم جنين، زكريا الزبيدي، وكتائب شهداء الأقصى. دفعنا أثمانا باهظة في هذه الحرب، لكن مشروعهم لم ينجح بعد، ولن ينجح أبدا. ببساطة لأننا أبناء هذه الأرض، ولان الاحتلالات تنهار أمام التاريخ.
نحن لا نقاتل لأننا أقوياء، وانما لنحيا وربما لأننا لا نملك خيارا آخر.
هذه ليست خاتمة… طالما بقي من يخط اسم فلسطين على الجدران، ومن يرسم صورة عبد الناصر في قلبه، فالقومية ليست ميتة، هي فقط في غيبوبة… لا تزال تتنفس.
نكسة حزيران لم تنته. هي تمر علينا كل عام، كضيف ثقيل لا يريد المغادرة. تذكرنا أن الحلم العربي، وان جُرح، لا يدفن. وأن اوطاننا لا تزال تنتظر رجلا يشبه عبد الناصر، أو يشبه تلك النظرة الأخيرة في عينيه يوم أعلن تنحيه، ثم عاد. لأن من يشبه الأوطان، لا يستطيع الهروب منها.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس
@lynaPERON

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى