عنوان أخبار السعودية | صحيفة عكاظ

في آخر سويعات النهار، حينما يتكسر النور على كثبان الرمال، تتداخل الظلال مثلما تتداخل الهويات. هناك في أقاصي شمال المملكة، حيث لا تزال الخيمة تُضرب على الرمل، إلا أن إشارات الإنترنت صارت تتدفق فوقها، وتتمازج روائح القهوة مع أصوات إشعارات البث المباشر.
لم يدر بخلد أحد من الرعيل الأول في الأجيال الماضية، أن صهوة الجمل ستُستبدل بكاميرا هاتف، ولا أن لُغة «المقناص» و«القطين» ستُحفظ في ذاكرة خوادم رقمية، بعدما عاشت أسيرة صدور الرجال؟ ليس هذا استلابًا، ولا تخليًا. إنه مشهد من التحوّل، يقوده جيلٌ جديد لا يرى التعارض بين جهاز بث مباشر وهُوية بدوية عمرها قرون.
هذه الحروف ليست حول نوستالجيا، ولا هي وثائقي عاطفي عن «التراث الجميل». بل تجسد لحظة مفصلية، في عالم رقمي حديث يُعيد تعريف الهُوية البدوية في مختبرات TikTok، ومساحات X ، وأسواق Etsy.
في الماضي، كانت الثقافة البدوية مرادفًا للسكون، للرمل الذي لا يتغير. واليوم، تظهر فتية هنا في بث حي من عمق الصحراء يتحدثون عن الحناء النجدي، وفتاة هناك تدرّس اللهجة الجنوبية على بودكاست صوتي، وشاب بينهما يحوّل «الفروة» إلى ماركة عالمية بشعار رقمي منقوش بالخط الكوفي.
ليست هذه مجرد مقاطع محتوى، بل أنوية سردية لهوية تعيد تعريف نفسها. لم يعد المحتوى البدوي يصل إلينا بوصفه «كيانا تراثيا»، بعد أن تحول أبناء البادية إلى فاعلين رقميين يحفظون السرد ويحولونه إلى اقتصاد.
مصطلح «البدو الرقميون» (Digital Nomads) منتشر في ثقافات الغرب، لكنه يحمل هنا نكهة مغايرة تمامًا. هنا، لا يعني العمل من الشاطئ فحسب، بل العمل من البر، من قرب موارد الماء القديمة، ومن عمق الموروث. شباب سعوديون يبرمجون من داخل خيمة، ويصممون شعارات أعمالهم على الأرض الرملية.
تلك المفارقة ليست عفوية. هناك وعي جديد يُنبت من التربة القديمة بذورًا لغدٍ أكثر تركيبًا. الهوية البدوية هنا ليست بقايا، بل مورد، ومنصة، وملف قابل للتحديث المستمر.
لا يوثق أبناء الجيل الجديد الموروث عبر الكتب أو الندوات، بل عبر 15 ثانية من «ريل» مصور أو سلسلة تغريدات. يُقال إن «التاريخ يُكتَب من قبل الأقوياء»، لكن التاريخ اليوم يُعاد إنتاجه من قبل المرئيين.
الفتاة التي تحيك سجادة تقليدية وتنشر مراحلها على Instagram، لا تحافظ على التراث فحسب، بل تعيد كتابته بصوتها. والشاب الذي يربط ناقة في خلفية فيديو عن البرمجة لا يجمّل المشهد، بل يوسّع حدود ما يُعتبر «معاصراً».
السؤال هنا ليس: هل ضاعت البداوة؟ بل: إلى أين تمضي وهي تُولد من جديد على شاشات OLED؟
ينظر بعض المحافظين بعين الريبة، ويرى بعض الأكاديميين أنها طفرة عابرة. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها تقول إن هناك اقتصاد بدوي رقمي ينمو. فهناك جمهور يشتري العقال الفضي عبر متجر إلكتروني، ويتعلم كيفية إعداد «اللبن الجميد» من فيديو بتقنية 4K.
ولم تنأ الجهات الرسمية بنفسها عن هذا التحول، إذ وفرت جهات حكومية عدة مساحات فعلية له. ففي جدة، أطلقت جامعة الملك عبدالعزيز مشروعًا باستخدام تقنيات geomatics لإنشاء جولة افتراضية تفاعلية بالواقع الافتراضي في قلب حي البلَد التاريخي، تضم معالمه ومبانيه المدرجة في اليونسكو، وتدعمها بيانات وتحليلات مكانية للمستثمرين والمستخدمين. كما تعاونت هيئة الثقافة مع حاضنة فالكُون فيز لتوثيق المواقع التراثية بنماذج ثلاثية الأبعاد، ونماذج افتراضية لمواقع مثل العلا، والبلد، ومدائن صالح، وأماكن مقدسة. هذه الأدوات لا تُنمّي التراث فحسب، بل تبثه إلى العالم بلغة الطبيعة الرقمية. بينما أطلقت وزارة الثقافة المنصة الثقافية الوطنية الغامرة ـ أول متحف ميتافيرس في العالم ـ بجولات تاريخية عبر الواقع الافتراضي، تشمل حفلات موسيقية وواجهة تثقيفية.
فيما ظهرت في مبادرات أخرى معادلة واضحة: قرية بدوية تُبث حية، بلغة الحاضر. ففي Reddit، نجد مبادرات مثل «Khaleeji Digital Heritage Project»، حيث انضم شباب من المهندسين والفنانين لإعادة تصميم مواقع التراث رقميًا، عبر طابعات ثلاثية الأبعاد وأدوات تصميم مجانية. إن هنا مُخاضاً ثقافيّاً تقنيّاً يبدأ من عزف ألوان البداوة، ويمتد ليصل عالمياً عبر شبكة الإنترنت.
وفي ظلال الرمال الممتدة، لكن بين طبقات السحب الرقمية، تصعد هوية جديدة. لم تفرّط في الخيمة، لكنها أعادت تصميمها. لم تتخلَ عن «الشبة»، لكنها صارت تشعلها في بث مباشر. لم تتوارَ في الصحراء، بل بنت على رمالها عوالم موازية، منفتحة، وعابرة للحواجز. وبهذا يؤكد «بدو المستقبل» أنهم ليسوا مجرد جيل رقمي، بل ورثة سرد وفاعلو تشكيل، يُقِيمون فوق الرمل، ويحلّقون في السحابة.
أخبار ذات صلة