اخبار

نتنياهو: بعبعة وجعجعة في الوقت الضائع..

الخطّة التي عرضها يسرائيل كاتس مستبقاً قيادة جيشه ليست سوى خطّة اعتراضية الهدف منها محاولة إعادة «التوازن» لكل التناقضات الداخلية الإسرائيلية التي لم تعد قائمة على أيّ نوعٍ من التوازنات، والتي وصلت إلى حافّة الحسم.

كلّما وصلت الأمور الداخلية، وبالأحرى التوازنات والمعادلات الإسرائيلية إلى حافّة الحسم انبرى من هم من عداد «الأولاد» أو صبيان نتنياهو بإطلاق «الخطط» التي تمنع الحسم، دون المغامرة بأيّ بديلٍ حقيقي، وإبقاء الحالة الداخلية الإسرائيلية معلّقة في الهواء، وعلى قائمة الانتظار.
نتنياهو يعرف أن جيشه لم ولن يوافق على السجن الجديد، ويعرف، أيضاً، أن المنطقة «الإنسانية» هي مصيدة للجيش، وتوريط كامل لقيادته في مساءلات قانونية دولياً، وبحيث لا يصبح أحد من قياداته على كل مستوياتها خارج نطاق هذه المساءلات، وبالتالي لا يعود بمقدور قياداته إلّا أن تكون كلّها أداةً طيّعة في يد القيادة السياسية الحاكمة.
الموازنات المطلوبة للمدينة «الإنسانية» أكبر من قدرة الجيش على التستُّر عليها، أو حتى السكوت عنها في ظل النقص الحاد في الموارد المالية التي يطالب بها، والتي يرفض بتسلئيل سموتريتش رفضاً تامّاً الاستجابة لها.
ولكن، ومع كل ذلك لا يملك الجيش «دستوريّاً» «حق الفيتو» على خطّة صبيان نتنياهو، ولا يملك سوى «الانخراط» بها إذا ما أصرّ هؤلاء الصبيان عليها.
نتنياهو يعرف حقّ المعرفة أن رفع سقف التناقض مع الجيش مغامرة كبيرة، خصوصاً، وأن هذا الأخير يقوم بشكل وحشي بذبح أهالي غزّة، وفي القتل المنظّم اليومي لعشرات المدنيين دون وجود أيّ سبب عسكري أو أمني لهذا القتل والإجرام.
كما أنه يعرف حقّ المعرفة أنّ معارضة الجيش ستلقى ترحيباً شديداً من أوساط شعبية في دولة الاحتلال، وربما ــ ولأسباب تنافسية سياسية على الأغلب ــ من أوساط المعارضة الداخلية.
لهذا كلّه لا يملك نتنياهو سوى أن يتراجع عن هذه الخطط، وبالتالي لا يملك سوى أن يتراجع عن الخرائط التي «اقترحها» الإسرائيلي المفاوض بالعاصمة القطرية، وأصبح مطالباً بتقديم خرائط جديدة للانسحابات الإسرائيلية في فترة الـ 60 يوماً من الهدنة، وذلك لأن الاعتبار الأمني والميداني لهذه الخرائط ارتبط بهدف إقامة هذا المعتقل الكبير.
وهذه هي المظاهر الأولى للبعبعة والجعجعة التي أثارها صبيان نتنياهو طوال الأسبوع المنصرم.
أما المظاهر الأخرى فتتجلّى وتعود، ويمكن تفسيرها بما يمكن أن تكون قد انتهت إليه «التوافقات» الأخيرة بين نتنياهو ودونالد ترامب في الأيام الأخيرة من زيارة نتنياهو للولايات المتحدة.
البعض يتحدث بمن فيهم بعض المتابعين الأميركيين، وكذلك بعض الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية أن ترامب قد أقفل الملفّ الإيراني مع نتنياهو على قاعدة أن هذا الملف هو ملف أميركي، ولم يعد مسموحاً اللعب به إسرائيلياً مقابل أن يحصل نتنياهو على كامل الصلاحيات للتحكُّم في الحرب الإبادية العدوانية والوحشية على قطاع غزّة، بما في ذلك الوقت، وبما في ذلك خطّة التهجير الجديدة تحت مسمّى «المدينة الإنسانية»، وكصورة بديلة عن صورة النصر التي تبدّدت في ضوء الضربات الموجعة التي وجّهتها المقاومة الفلسطينية لجيش الفاشية في القطاع.
هذه التقديرات حتى وإن كانت تنطوي على بعض المعطيات الصحيحة إلّا أنها تفتقر إلى الدقّة.
الملفّ الإيراني فعلاً لم يعد قابلاً للتلاعب به من قبل دولة الاحتلال، ولكن الوقت ليس مفتوحاً أمام نتنياهو للتلاعب بالملفّ الميداني في القطاع.
والسبب يفصح عن نفسه، ولا يحتاج إلى جهود خاصة لتفسيره. انتقل الصراع ما بين إيران من جهة، وما بين التحالف الأميركي الإسرائيلي، ومعه أطراف عربية موغلة في جهلها، وغارقة في متاهاتها، بما في ذلك متاهة عدم إدراك الأخطار المحدقة بها قبل غيرها، انتقل الصراع إلى أشكال جديدة كمقدمة للمفاوضات، وليس كبديل عنها في هذه المرحلة.
الصراع انتقل إلى البعد الاستخباري والتخريب من الحدود، وهنا يعهد للدولة التركية بأن تقوم بهذا الدور عبر الأراضي الأذرية، ومن المرجّح إعادة «تفعيل» التخريب من المناطق الكردية في نفس الوقت الذي تفتح فيه المفاوضات.
تركيا بدورها تفهم أن الحسم القادم للحرب في أوكرانيا سيهمّش دورها هناك، ومن المحتمل أن لا تظلّ العلاقات الروسية التركية على نفس الأهمية القائمة بين البلدين، وعلى الأرجح لن تقبل روسيا باستمرار النظام الأذري كقاعدة متقدّمة للولايات المتحدة ودولة الاحتلال، وستعيد ترتيب أوراق العلاقة مع أرمينيا نحو صلب المصالح الروسية هناك.
تركيا تفهم أن روسيا وإيران لهما مصلحة بتحجيم دور النظام الأذري، وتفهم أن «حلف الناتو» آيل إلى التفكّك، ولم يعد أمامها سوى الورقة «السورية» للعبث بالأمن اللبناني، وربما الذهاب للهيمنة عليه كما جاء على لسان المبعوث «الترامبي»، والذي هدّد بقاء لبنان كدولة إذا لم يتمّ سحب سلاح «حزب الله» اللبناني قبل أيّ تعهدات بالانسحاب الإسرائيلي من قرى وتلال الجنوب.
والعبث بالأمن اللبناني وتهديده للسيادة والوجود اللبناني يمكن أن يقابله في المستقبل استخدام النظام الجديد في سورية لأغراض إسرائيلية، وهو ما يعني لكل من يريد أن يقرأ مفهوم الشرق الأوسط بصورة أعمق بكثير ممّا تبدو عليه الأمور من على سطح الأحداث والتطوُّرات.
الذهاب الآن نحو «المدينة الهتلرية» الجديدة في رفح هو أكبر مغامرة يمكن لها أن تطيح بكل المبنى الأميركي للمنطقة، ومن شأن مغامرة كهذه أن تغضب العربية السعودية، وبلدان الخليج العربي الأخرى، وقد تصل الأمور إلى سحب الدعم لنظام الشرع إذا أصرّ أن يلعب اللعبة التركية الإسرائيلية المشتركة.
وكما بدا واضحاً من تصريح المبعوث «الترامبي» فإن الولايات المتحدة يمكن أن تبيع لبنان، وحكومته ورئيسه بأبخس الأثمان، وهي تلوّح بعصا الشرع ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه الاعتراض على الحرب المذهبية التي يعدّ نظام الأخير نفسه لها، بما في ذلك تجميع «دواعش» المشرق العربي كلّه كقوات احتياط في الإقليم العربي تحت غطاء محاربة إيران.
فهل يمكن أن يقبل ترامب بإجهاض هذه المخطّطات، والمغامرة بسحب الدعم لنظام الشرع من قبل بلدان الخليج، وتهديد مصر مباشرة، وتهديد الأردن بصورة مباشرة، وبصورة غير مباشرة حتى الآن ليرضي نتنياهو الذي يطالب جيشه، والغالبية من مجتمعه بإنهاء حربه الدموية حتى لو كان هذا الإنهاء يعني انسحاباً جدّياً من غزة؟
أين هي مصلحة أميركا في كلّ ذلك؟
والاستنتاج هنا هو أن الإدارة الأميركية ربما تكون قد أعطت نتنياهو فسحة صغيرة من الوقت للمناورة فيها في محاولة تحسين شروطه في الصفقة، وليس إعادة إطلاق يديه في القطاع ومن دون حدود زمنية.
ولهذا فإنّ نتنياهو سيتراجع عمّا قريب، وبأقرب أجل مما يحاول أن يخفي، وهو لا يملك سوى أن يذهب إلى الصفقة صاغراً، لأنه فقد كلّ الأوراق التي تؤهّله للوقوف ضدّها.
المفارقة العجيبة هي أن النظام العربي الذي خذل غزّة، وتخلّى عنها اعتقاداً منه بأن عكس ذلك قد يغضب أميركا، وقد يسلّط دولة الاحتلال عليها، وبما تمتلكه من أوراق داخل أنظمة هذا النظام، بما فيها تلك التي تشبه ما شهدناه في لبنان وإيران من «بيجر» ولاسلكي ومسيّرات ومن قوى خفيّة احتياطية للتدخُّل.. المفارقة العجيبة أن هذه الأنظمة بدأت تكتشف دون اعتراف أو إعلان منها أن هزيمة إيران، وسحب الأسلحة من الحزب و»حماس»، ومن فصائل أخرى كثيرة، وتهديد الوجود «الحوثي» اليمني، ربما يكون ضدّ مصالحها الوطنية، وأن الحماسة الزائدة للمطالب الأميركية الإسرائيلية بهذا الاتجاه، وبهذا المعنى قد لا يكون هو الخيار الأفضل لها، ولوجودها ومستقبل شعوبها، وليس مستقبل أنظمتها فقط.
ما زالت الأمور في بداياتها الأولى لكنني أرى أو أكاد أن أرى أن التحوّلات في الإقليم لا تسير باتجاه أميركي واحد، لأن هناك اتجاهات أخرى قد تبرز في الأفق فجأة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى