غيتو رفح: حلم وزير الأمن الإسرائيلي بتهجير الفلسطينيين ..مصطفى إبراهيم

في خضم المفاوضات غير المباشرة بين دولة الاحتلال وحركة حماس بشأن التوصل إلى تهدئة ووقف إطلاق النار، تواصل إسرائيل حربها الشعواء، وتفرض سيطرتها على نحو 70% من أراضي قطاع غزة. هذه النقطة تشكل خلافاً جوهرياً يعرقل جهود الوساطة، خصوصًا فيما يتعلق بالخرائط وإعادة انتشار قوات الاحتلال أو انسحابها من المناطق التي تسيطر عليها.
تخطط دولة الاحتلال لفرض خطة خلال فترة وقف إطلاق النار تمتد لـ60 يوماً، تُقام خلالها معسكرات احتجاز على أنقاض مدينة رفح. وتهدف الخطة إلى دفع الفلسطينيين نحو رفح، وحبسهم هناك، تمهيداً لدفعهم إلى الهجرة.
الخطة الإسرائيلية المعروضة في المفاوضات تُبقي مدينة رفح بأكملها تحت الاحتلال، كمدينة أشباح، وتُمهد فعلياً لتطبيق سياسة التهجير القسري. وهي تقضم ما يقارب 40% من مساحة القطاع، إذ تمتد السيطرة الإسرائيلية في بعض المناطق حتى ثلاثة كيلومترات من الحدود، ما يحرم أكثر من 700 ألف فلسطيني من العودة إلى منازلهم، ويدفعهم قسراً إلى مراكز تجميع النازحين في رفح، تحت مسمى “مدينة إنسانية”، لا علاقة لها بالإنسانية.
الخرائط التي تقدمها إسرائيل في المفاوضات لا تعدو كونها نكتة، إذ تحوّل محور موراغ إلى “محور فيلادلفيا الجديد” الذي يقسم غزة إلى نصفين. وكما كانت خطة الجنرالات في السابق تهدف إلى تطويق شمال قطاع غزة وقطع الاتصال بينه وبين إسرائيل، نُقل الآن مركز ثقل الاحتلال من شمال القطاع إلى محور موراغ.
إن أي إصرار على إنشاء معسكر اعتقال، أو ما يُسمى زورا “معسكراً إنسانياً” يعني ترك معبر رفح تحت السيطرة الإسرائيلية، لتتمكن إسرائيل من التحرك من خلاله وفرض سيطرتها الأمنية. ولن يوافق نتنياهو على العودة إلى خطوط وقف إطلاق النار السابقة، إذ أن حكومته ستنهار فوراً إن فعل ذلك.
في هذا السياق، يروج وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس. في الأساس فكرة الحكومة لإقامة معسكرات اعتقال كأداة لتطبيق سياسة التهجير القسري، وهي جريمة صريحة بموجب القانون الدولي.
قبل أكثر من عام، دعي كاتس، وكان حينها وزيراً للخارجية، إلى مؤتمر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لمناقشة الأوضاع الإنسانية في غزة. فاجأ الحضور بعرض مقطع فيديو من إنتاجه يعود إلى نحو عشرة أعوام، يعرض فيه مشروعاً خيالياً أسماه “جزيرة غزة”، وهي جزيرة صناعية في البحر يُنقل إليها جميع سكان القطاع.
هذا المشروع، الذي تجاهل تماماً الواقع الجغرافي والسياسي، لم يكن سوى غلاف ناعم لفكرة التطهير العرقي: عزل السكان، وحرمانهم من حق العودة، ووضعهم تحت رقابة بحرية وجوية إسرائيلية. تجاهل كاتس التبعات الإنسانية الكارثية للمشروع، وطرحه كـ”حل مبتكر”.
ومع استحالة تنفيذ “جزيرة غزة”، أعاد كاتس إحياء الفكرة بصيغة جديدة، غيتو رفح.
تقوم الفكرة الجديدة على إنشاء معسكر ضخم على أنقاض رفح، يُجمع فيه نحو مليون فلسطيني داخل منطقة مغلقة ومحاطة بالأسوار، دون حرية تنقّل، وتحت إدارة عسكرية إسرائيلية مباشرة، ومن دون أي قيادة فلسطينية أو رقابة دولية حقيقية.
ورغم أن المشروع يُقدم تحت عنوان “الإغاثة الإنسانية”، فإن جوهره يتمثل في السيطرة والعزل وتجريد السكان من حقوقهم الأساسية. حتى المساعدات الدولية، التي يُفترض أن تكون محايدة، ستخضع بالكامل للرقابة والتوقيت الإسرائيلي.
الاتحاد الأوروبي، رغم اعتراضه الأولي، أبدى استعداده لتقديم المساعدات. لكن تنفيذ “غيتو رفح” سيضعه، ومعه بقية المانحين، أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية مباشرة: هل سيُساهمون في بناء معسكر اعتقال جماعي؟
أما كاتس، فيرى في هذه الفكرة رافعة انتخابية داخل حزب الليكود. ويُقال إنه يعتبر مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية إن صدرت “وسام شرف” يعزز مكانته في الانتخابات التمهيدية.
الخطورة في مشروع كاتس لا تكمن فقط في وحشيته، أو في أهدافه المرتبطة بإعادة احتلال قطاع غزة، بل أيضًا في صمت العالم أمامه. شيطنة سكان غزة وتجريدهم من إنسانيتهم يتم بلغة مألوفة: “إرهابيون”، “خطر ديموغرافي”، “عبء إنساني”. وهي لغة تُكرّر بشكل واضح خطاب الإبادة الذي سبق أن عرفته البشرية.
التاريخ لا يُعيد نفسه دفعة واحدة، بل يبدأ من خطوات صغيرة، مثل تبرير “المعسكرات المؤقتة”.
ولكل من يرى أن تشبيه “غيتو رفح” بالأحياء اليهودية في أوروبا النازية فيه مبالغة، عليه أن يطرح على نفسه سؤالًا بسيطاً:
هل من المقبول حبس مليون إنسان داخل سور، فقط لأنهم فلسطينيون؟
في النهاية، قد يختفي كاتس من المشهد السياسي، لكن فكرته – التي تجمع بين الخيال، والسيطرة، والعقاب الجماعي، والتطهير العرقي، والتهجير، والطرد، ستبقى وصمة عار على كل من صمت، وشارك، وشرّع، تحت ذريعة “أمن إسرائيل”.