اخبار

حماس ومأزق الخيارات الصفرية .. د. جمال خالد الفاضي

تشهد غزة اليوم لحظة مفصلية تتجاوز حدود الميدان العسكري إلى عمق الحسابات السياسية والاستراتيجية. فالتهديد باجتياح المدينة لم يعد افتراضًا، بل تحوّل إلى سيناريو واقعي ضمن خطط إسرائيلية معلنة، ما يجعل أي هامش للمناورة أمام حماس تكاد تكون معدومة. وفي مثل هذه اللحظات الحرجة، تفرض الواقعية السياسية نفسها، لتجعل من حماية الشعب الفلسطيني أولوية قصوى، تسبق أي اعتبارات حزبية أو فصائلية.

أثبتت التجربة أن السياسة حين تُدار بعقلية أحادية، بعيدًا عن موازين القوى الإقليمية والدولية، فإنها تقود إلى نتائج كارثية على المجتمع. فقد اختارت حركة حماس إدارة المعركة بشكل منفرد، مرتكزة على الصمود الشعبي والقدرات العسكرية المحدودة، دون أن تولي الاهتمام الكافي لتعقيدات البيئة السياسية المحيطة، سواء على مستوى التحولات الدولية أو تغير مواقف القوى الإقليمية، أو حتى على مستوى البيئة الداخلية لدولة الاحتلال، هذه المقاربة المنفردة، وإن عكست نزعة مقاومة، إلا أنها أغفلت القاعدة الجوهرية في العلاقات الدولية: أن الفعل السياسي لا ينفصل عن القراءة الدقيقة لشبكة المصالح والتحالفات وتوازنات القوى.

من منظور نظرية الواقعية السياسية، فإن القوة الصلبة وحدها لا تكفي لإدارة الصراع. إذ لا بد من مراعاة السياق الدولي والإقليمي، وفهم طبيعة النظام الدولي الذي يقوم على لعبة المصالح المتغيرة والتحالفات المؤقتة. لقد تجاهلت حماس، إلى حد كبير، هذه المعطيات، فدفعت بقطاع غزة وشعبنا إلى مواجهة غير متكافئة مع قوة عسكرية متفوقة، وجبارة وغير إنسانية، ما انعكس مباشرة على المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ الذين أصبحوا وقود المعركة. وهنا يتجلى ما يسميه الواقعيون بـ “ثمن سوء التقدير الاستراتيجي”، حيث تُدفع التكلفة من حياة الناس وبنية المجتمع.

المأساة الراهنة أعادت إلى السطح السؤال الأهم: هل تُدار المعركة وفق منطق الحزب أم وفق منطق الشعب؟ منطق الحزب يقوم على تعظيم المكاسب التنظيمية حتى في أحلك الظروف، بينما منطق الشعوب يضع الأولوية في صون الحياة وحماية النسيج المجتمعي من الانهيار. 

وقد آن الأوان للتسليم بأن استمرار الحرب لا يخدم إلا مشروع الاحتلال في تدمير غزة ومدنها وإضعاف المجتمع، وتنفيذ أجندته والتي على رأس أولوياتها تهجير شعبنا، ولعل الواقع المر والمأساة دليل حي، بينما الخيار الأكثر واقعية هو القبول بمسارات تفاوضية تضمن الحد الأدنى من حماية شعبنا ووجود وصموده، والحفاظ على ما تبقى من مقومات الحياة.

تجارب الشعوب أثبتت أن التنظيمات تزول لكن الشعوب تبقى. والمجتمعات التي تنجو من محطات الانكسار قادرة على إعادة بناء ذاتها وصياغة مشروعها الوطني من جديد. في الحالة الفلسطينية، يبدو أن الخيار الأكثر عقلانية اليوم هو وقف الحرب، مهما كان الثمن، باعتباره شرطًا أساسيًا لبقاء شعبنا حياً صامداً، ولبدء مرحلة جديدة من إعادة البناء على المستويين المادي والسياسي.

إن المشهد الراهن في غزة يجسد بوضوح ما يسميه علماء السياسة بـ “مأزق الخيارات الصفرية”، حيث تذوب مساحة المناورة وتبقى فقط الخيارات الوجودية. ولعل الدرس الأبرز هو أن السياسة، إذا انفصلت عن حسابات الواقع الدولي وعن ترتيبات أولويات الشعوب، تتحول إلى عبء يفاقم الأزمات بدل أن يخففها. واليوم، لم يعد السؤال حول بقاء حماس ، بل حول بقاء الشعب ذاته، لأن الشعوب هي التي تصنع التاريخ، فيما الأحزاب والتنظيمات ليست سوى عابرين فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى