اخبار

وصار الحُلم هو الخيمة… نضالات النازحين من أجل البقاء!!المستشار د. أحمد يوسف

النزوح جرحٌ نازف لا يندمل، هو الوجه الأكثر قسوةً لسياسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
الناس يفرّون من أماكنهم، يجرّون وراءهم خوفهم وأحلامهم المحطمة، تاركين بيوتهم وذكرياتهم وكنوزهم الصغيرة، فقط من أجل النجاة بالحياة وحياة أطفالهم.
لقد تركت لنا إسرائيل خيارين مريرين: الموت العاجل بقصف غادر، أو الموت المؤجّل بالجوع والعطش والمرض، أو الوقوع في شباك المصائد التي نصبتها لتبتلع الأرواح بلا رحمة ولا كرامة.

عشرات الآلاف من العائلات نزحت من شمال القطاع إلى رفح وخان يونس، ثم عادت بعد إخلاء مدينة رفح إلى مناطق الشمال، طلبًا لحياة أقل قسوة. ومع كل رحلة نزوح جديدة، يتلاشى ما تبقّى لهم من حياة، حتى أصبح أقصى ما يحلمون به اليوم هو خيمة. في أحد المخيمات، سمعت أمًّا تهمس لطفلتها الصغيرة: “نامي يا حبيبتي… غدًا سيبني الله لنا بيتًا، وحتى ذلك الحين ستبقى هذه الخيمة بيتنا.” كانت الخيمة ممزقة الأطراف، بالكاد تردّ عنهم الريح، لكنها كانت لهم ستراً وغطاءً، تحفظ بعضًا من كرامتهم المهدورة.

الأطفال هم الوجه الأكثر وجعًا للمأساة. صغار حفاة يركضون بين الخيام الممزقة، بطونهم خاوية، وعيونهم الصغيرة تملؤها الدهشة والخوف، وكأنهم يصرّون على أن للطفولة حقًّا في الحلم، حتى وسط هدير الطائرات. سمعت طفلًا يقول لأمه: “ماما، لماذا لا نرجع إلى بيتنا؟ لقد اشتقتُ إلى سريري وألعابي.” فتردّ الأم بصوت مخنوق: “بيتنا لم يعد موجودًا يا حبيبي… لكن الله سيبني لنا بيتًا أجمل في الغد.”

الماء معركة يومية في المخيمات. الصغار يحملون أوعية فارغة، ينتظرون دورهم عند صهاريج متنقلة، وقد تتحول الطوابير إلى صراع على دلو ماء، قد يصل أحيانًا إلى إطلاق نار قبل أن ينجح العقلاء في تهدئة الأمور وتنظيم الدور. في زحمة الطوابير، تبكي أمّ لأنها لم تستطع أن تملأ جالونًا يكفي أطفالها ليوم واحد. ومع حلول الليل، يسود الظلام، فلا إنارة، وتبدأ الكوابيس بمطاردة أحلام النازحين.

الليل في المخيمات يزيد من القلق والخوف؛ النساء يتهامسن عن الفلتان الأمني، والأطفال المعرضون للخطر، والشباب المغامرين بأرواحهم للبحث عن كيس طحين أو بعض المساعدات، لكن كثيرًا منهم لا يعود، والموت يترصّدهم في الطرقات التي تمر بها مقاطير المساعدات.

في غياب المخابز العامة، يحاول بعض رجال المخيم صنع مواقد بدائية من الطين والحجارة. أتذكر شيخًا يُشعل النار تحت صفيحة قديمة ليخبز رغيفًا، يضحك بمرارة قائلاً: “الخبز هنا أغلى من الذهب… لكنه يساوي الحياة.” أما الكرامة فقد استُبيحت بالكامل؛ المخيمات تفتقر إلى المراحيض، والأطفال والنساء والرجال يضطرون لقضاء الحاجة خلف سواتر ترابية، في مشهد يوجع القلوب ويهدد بانتشار الأمراض. وفي هذه الظروف، أرى الأطفال يهرشون جلودهم بلا توقف، والأمهات عاجزات عن توفير دواء لهم، بينما الوصول إلى نقاط العلاج نادر، والمستشفيات الميدانية بعيدة، والوقود غير متوفر، ما يجعل الناس أسرى أقدامهم. كبار السن لا يغادرون خيامهم، حتى يعجزوا عن تأدية واجب العزاء أو مواساة الجيران.

المأساة تتبع النازحين في كل خطوة. من يخرج بحثًا عن الدواء أو الغذاء قد لا يعود. كم من أب ودّع أبناءه عند الفجر قائلًا: “سأعود ومعي خبز ودواء”، ثم عاد محمولًا على الأكتاف أو مفقودًا تحت الركام. هكذا تحولت طرقات النزوح إلى فخاخ موت. عجوز سبعينية تئن من وجع ركبتيها تقول: “أُخرجونا من بيوتنا في الليل، لم آخذ دوائي ولا عباءتي الثقيلة. كل ما أطلبه أن أموت في سريري، لا على تراب هذا المخيم.” وأب فقد ابنه عند طابور المساعدات يصرخ: “ذهبت لأجلب له كيس دقيق… فعاد إليّ جثة صغيرة. كيف أقول لزوجتي إن خبز الحياة صار ثمنه حياة ابننا؟” أما الطفلة التي تحمل دميتها المحروقة بين ذراعيها همست لي: “أبي تحت الركام… لكني سأنتظره. ربما يعود ويبحث عني بين الخيام.”

ومع تواصل التهديدات الإسرائيلية باجتياح غزة مجددًا، يعود شبح النزوح ليخيّم على الأذهان. الأحاديث عن عملية عسكرية واسعة تعني أنّ آلاف الأسر ستُضطر لترك ما تبقّى من مأوى، والارتحال مرّة أخرى نحو المجهول. مع كل موجة نزوح، تتضاءل فرص العثور على خيمة أو مساحة تحتضن الأجساد المتعبة. لقد صار الحلم بالخيمة – ذلك الرمز البسيط للهشاشة – حلمًا بعيد المنال، يتسابق النازحون وراءه في مشهد يفضح عمق الفاجعة الإنسانية في القطاع.

النزوح سلسلة من العذابات تبدأ بالبحث عن خيمة، ثم ماء، ثم أدنى مقومات الكرامة الإنسانية، مشهد يذيب الدموع في أعيننا مع كل نازح جديد يلتحق بقافلة العذاب. ومع ذلك، هناك ومضات إنسانية: جهات رسمية تحاول أن تبقى رافعة إنسانية، وفي مقدمتها الفارس الشهم وناشطو التيار الإصلاحي الديمقراطي، إلى جانب منظمات دولية كالصليب الأحمر (ICRC) وهيئة الإغاثة الإنسانية التركية (IHH). وعطايا أهل الخير من أبناء شعبنا لم تنقطع رغم الظروف الصعبة التي تطال الجميع بلا استثناء.

نرفع الأكف إلى السماء أن يُبدّد الله هذا البلاء، وأن يزرع في قلوب أطفالنا نور الأمل بدل ظلمة الخيام. ونوجّه صرختنا إلى الضمير الإنساني الحر: إن غزة ليست مجرد جغرافيا محاصَرة، بل روح إنسانية تُستباح كل يوم. إن صون كرامة النازحين ليس إحسانًا، بل واجب أخلاقي على العالم كلّه. هؤلاء الذين حُرموا من البيت والدفء والماء، لا يطلبون إلا حقًا بديهيًا: أن يعيشوا بكرامة، وأن يحلموا بمستقبل لا يبدأ بالخيمة ولا ينتهي عندها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى