اقتصاد

التاريخ الثقافي للجنون


جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في كتابه «الجنون والحضارة: التاريخ الثقافي للجنون» (دار صفحة 7، 2025) يُقدِّم أندرو سكُل خلاصة عملية لأكثر من أربعين عامًا قضاها في دراسة تاريخ الجنون، راكمَ خلالها قدرًا من المعارف يستحق القراءة والنقاش.

تحت عنوان «الإسلام والجنون»، يقول سكُل في كتابه الذي ترجمه إلى العربية عبد المنعم المحجوب، إن العرب حملوا معهم، أثناء توطيد حُكمهم السياسي بدءًا من القرن الثامن الميلادي، إيمانًا بالأرواح والرّقى والتعاويذ المكرّسة للعلاج من شياطين الجن الذين ألقيت عليهم جريرة المرض والاعتلال. ومع اعتراف الدين الإسلامي صراحةً بوجود شياطين الجن الخبيثة وقوتها، فقد تعايش حينًا من الزمن دون غضاضة، مع سرديات فوق- طبيعية عن أشكال مختلفة من «البلاء»، من بينها الجنون. وحتى عندما استوعبت ثقافة المسلمين الراقية العناصر الهلنستية، وأصبح الطب اليوناني أساسًا في التقاليد الطبية الإسلامية، فإن تفسيرَ الجنون بالتأويلات فوق الطبيعية استمر جنبًا إلى جنب مع التفسيرات التي صيغت بمصطلحات ذات نزوعٍ طبيعي، وغالبًا ما كان البحث عن الحلول الدينية بديلًا يُستعاض به عن التدخلات الطبية إذا لم تكن مُجدية (ص 61).

لم يتضمن الإسلام الصحيح طقوسًا للتعاويذ وطرد الأرواح الشريرة تناظر تلك التي انتشرت في أوروبا. إن ما نمتلكه من أدلة عن المعتقدات والممارسات الشعبية مجرد نتفٍ وشذرات على أفضل تقدير، لكنها تشير بقوةٍ إلى اللجوء على نحوٍ متكرر إلى طلب الغيب لعلاج الجنون، وإلى تفسيره فقدان العقل تفسيرًا شيطانيًا. ثمة إشاراتٌ متكررة إلى الجن و«إخراج الجن»، وتوجد إلى اليوم، في بعض المناطق العربية، طقوس تُعرف باسم «الزار»، لإخراج الشياطين من شخصٍ ما. يصوِّر مايكل دولز، وهو مؤرخ معروفٌ كتبَ عن الجنون في إسلام العصور الوسطى، مدى سعة التفاسير الدينية التي شرحت الجنون في كل مكان تقريبًا خلال هذه الفترة، متحدثًا عن «ماسونية المعتقدات فوق الطبيعية… حيث كان سبب الاضطرابات العقلية وربما علاجُها أمرًا خارقًا (فوق طبيعي)، بالنسبة إلى الوثنيين، وكذلك اليهود والمسيحيين في العصر المسيحي المبكر.. وورث المسلمون إرثًا غنيًا من الاستشفاء الروحي… وهناك استمرارية واضحة للاستشفاء المسيحي في المجتمع الإسلامي».

غالبًا ما حافظ العثمانيون لاحقًا على الوعود العربية السابقة بالتسامح مع اليهود والمسيحيين الذين عدّهم الفاتحون أتباع أديان إبراهيمية أخرى، وإن تعرّضت للتحريف. وفي مقابل الجزية، تم إعفاؤهم من الالتزام بإرسال جزية الحبوب إلى القسطنطينية، وسُمِح لهم بأن يعيشوا حياتَهم دون تدخلٍ من الدولة إلى حدٍّ كبير، فازدهرت التجارة والبيع، وأُلِحت أعمال الري، وأقيمت المباني الكبيرة، وظهرت حياةٌ فكرية وثقافية غنية في جميع أنحاء الأراضي التي احتلها العثمانيون.

انتقلت الحضارة الإسلامية من طور قويٍّ إلى آخر، ومعها انتقل الطب الإسلامي. كانت النخبة الحضرية المتعلمة التي تتحدَّث اللغة العربية الفصحى تتشارك ثقافةً واحدة تمتد من قرطبة إلى سمرقند. كان الطب العربي على وجه الخصوص من صُنع غير المسلمين في معظم الأحيان، لا في جميعها. ومن أبرز أطباء المسلمين ابن سينا، مؤلف كتاب «القانون في الطب».

بفعل أثر شروحات المؤلفين الإغريق، ظن الأطباء المسلمون أن التغيرات التي تحدث في توازن الجسم سببٌ أساسي وراء اضطرابات الاستقرار العقلي. إسحاق بن عمران (ت 908م) على سبيل المثال، وكان قد كتبَ رسالةً مطولة بعنوان «مقالة في الماليخوليا»، عزا «الشعور بالاغتمام والاعتزال الذي يتكون في النفس بسبب ما يظن المرضى أنه حقيقيٌ، لكن لا حقيقة له»، إلى الأبخرة المتصاعدة من المُرة السوداء، فتُغشّي العقل والإدراك وتوهنهُما ، فيعضهم مهيأ لآثارها المهلِكة منذ الولادة، كأنهم لُعنوا بمزاجٍ سوداويٍّ كئيب، وآخرون يجلبون المرضَ على أنفسهم بالإفراط في الطعام والشرب، أو بالإفراط في حركة البدن أو الإقلال منها، أو بالفشل في استفراغ أمعائهم بانتظامٍ (ما يجعل الفضلات تتعفن وتتحوّل إلى المرّة السوداء). وقال إسحاق إن الخوف أو الغضب أو الخسارة يمكن أن تعجّل أيضًا بحدوث هذا الشكل من الجنون، ولكن الإصابة تستشري هنا أيضًا بتراكم المُرّة السوداء المفرطة، ويؤثر هذا على الدماغ (عن طريق العصب الودي). وعلى الرغم من أن إسحاق بن عمران كتب «مقالته» في نهاية حياته المهنية، فإنها اعتمدت بأكملها على الدراسة النظرية، لا على الخبرة السريرية، فكان بذلك مثالًا نمطيًا مُعبِّرًا.

في ظل الحُكم الإسلامي انتشر تأسيس المستشفيات، وظهر أولُّها في أواخر القرن الثامن، وكان غيرُ الأسوياء من بين المرضى الذين تلقّوا رعايةً منتظمة. شدّد الإسلام، على التزام الأغنياء إزاء الفقراء، وما إن بدأ الأطباء المسلمون في الظهور بأعدادٍ كبيرة، حتى تلا ذلك تلقائيًا تنافسٌ واضح مع نظرائهم المسيحيين، ومن الأكيد أنه لا يمكن النظر إلى المسلمين على أنهم أقل إحسانًا من أهل الذمة. ويمكن القول إنه لم تكن هناك أي مدينةٍ إسلامية كبيرة بحلول القرن الثاني عشر تخلو من المستشفيات .

الشواهد التي تشير إلى العلاج الذي تلقّاه المجانين المحتجزون في الأجنحة المخصصة لهم في هذه المستشفيات شواهد مبعثرة وجزئية، ولكن خرائط الطوابق المتبقية تشير إلى أن وجود مجموعة الحجيرات الفردية والردهات المفتوحة كان أمرًا شائعًا، وهي صورة عززتها تعليقاتُ المسافرين الذين زاروا ما تبقّى من تلك المعالم التي خُصصت للأعمال الخيرية الإسلامية. ثمة الكثير من الروايات عن نوافذ حديدية، وعن مرضى مقيدين بالسلاسل، وهو أمرٌ قد لا يكون مفاجئًا، فعلى الرغم من انتشار المستشفيات في جميع الأراضي الإسلامية (وصولًا إلى إسبانيا حيث بُني مستشفى غرناطة بين عامي 1365م و1367م)، لم يكن هناك سوى أمكنة قليلة لأعدادٍ صغيرة من غير الأسوياء. ومن المرجح أن الكثير منهم كانوا خطرين أو شرسين، أي أولئك الذين واجهت مجتمعاتتُهم صعوبةً كبيرة في احتوائهم والسيطرة عليهم. ربما كان البيمارستان المنصوري في القاهرة هو الأكبر بين هذه المنشآت، وقد أقيم عام 1284م، وكان يؤوي بضع عشرات من المجانين في وقتٍ واحد. أي أن غيره من المستشفيات كان على الأرجح يؤوي عددًا أقل بكثير.

كان المرضى يتعرّضون في أحيانٍ كثيرة إلى الضرب، مع تقييدهم إلى الجدران. لكن النزلاء عُملوا أيضًا، كما أوصى جالينوس، بنظامٍ غذائي يتوخى منه تبريدُ أبدانهم وترطيبُها، لمواجهة آثار السخونة والجفاف بسبب احترار المُرّة السوداء أو الصفراء التي يُعتقَد أنها أدت إلى جنونهم، وكانوا يُعطون حمامات (باردة) لإنتاج آثار مماثلة. كما استُخدِمَ الفصد والحجامة والقيء والاستفراغ لإفراغ الأخلاط الضارة، بالإضافة إلى الأفيون، وغيره من أدوية أكثر تركيبًا صُممت للتهدئة أو التحفيز، حسب حال المريض، مهتاجًا كان أو انطوائيًا. كان الخزامى، والزعتر، وعصير الرمان، أو الكمثرى، والبابونج والخربق الأسود من بين المواد التي أدرجها ابن سينا لما قد يكون لها من نفع، إلى جانب مُركبات متنوعة من الزيوت والمراهم. وقد أوصى أطباء – الجنون الغربيون بعد عدة قرون من ذلك بهذه الأساليب أو ما يماثلها (ص 74).

يشير تخصيص مساحاتٍ منفصلة للنساء المجنونات إلى أن بعضهنّ كان من الصعب التعامل معهن أهليًا، خاصة وأن الرجال المسلمين كانوا يكرهون أن يُظهِروا نساءهم على هذا النحو، لكن معظم المجانين، ذكورًا وإناثًا على السواء، جرى التعامل معهم في منازل عائلاتهم، وهو واجبٌ كان من السهل أداؤه بالنسبة إلى الأثرياء طبعًا؛ لأنهم يستطيعون توفير ما يتطلبه ذلك من موارد إذا دعت الضرورة، مثل تهيئة مكانٍ خاص لحبس المجنون من أهلهم، أما بالنسبة إلى الجزء الأكبر من سكان الإمبراطورية الإسلامية الذين عاشوا بعيدًا عن المراكز الحضرية، فمن الواضح أنهم لم يحظوا بمثل ذلك العون الذي وفرته المستشفيات، كما كانت خدمات شخصٍ ذي علاقةٍ بالطبابة النظامية شيئًا غير متاح ماليًا بالنسبة إلى معظم الناس؛ لذا، ولأسباب أخرى مختلفة، فإن المجانين تُركوا طلقاء يتجولون ويتسولون، طالما رآهم الآخرون غير ضارين ولا يهددونهم، مع بقائهم تحت رحمة المجتمع الذي قد يسخر منهم ويتهكم عليهم، أو يعنّفهم.

لم تختفِ الممارسات الخاصة بالإشفاء الروحي وطرد الشياطين في أعقاب الفتوحات الإسلامية، حيث ظلت أغلبية سكان الشرق الأدنى مسيحيةً على مدى قرنين أو ثلاثة على الأقل، وتواصلت بينهم محاولات إشفاء المجانين عن طريق مجموعة متنوعة من الإجراءات القائمة على أساسٍ ديني. أما بين المسلمين، فقد كان مصطلح «الجنون» في أشكاله الطبية والقانونية، يُستخدَم غالبًا لوصف غير الأسوياء بدلالاتٍ سلبية. وهذا المصطلح «مجنون» يعني حرفيًا «به مسٌّ من الجن» (أو تملكته الجن، أو تلبسته، أو استحوذت عليه)، وهو لقبٌ أُطلِق على قيس بن الملوّح «مجنون ليلى»، على سبيل المثال لا الحصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى