اخبار

مساومة فلسطينيي الضفة قبيل الانفجار.. محاولة إسرائيلية لتحلية البحر الميت بملعقة سكر

 أثارت العملية الفلسطينية في مدينة رعنانا، أمس، نقاشاً قديماً في الأوساط الإسرائيلية حول إدخال عمال فلسطينيين للعمل في إسرائيل، وهل يؤدي ذلك لتحسين الأمن داخل الضفة الغربية، أم يفتح الباب أمام عمليات تزعزع الأمن في العمق الإسرائيلي.

ومما يؤجج هذا النقاش، المرشح للتصاعد الآن، أن وزير الأمن في حكومة الاحتلال يوآف غالانت كان قد قال، قبيل العملية بساعات، إنه يؤيد موقف المؤسسة الأمنية، التي ترى بضرورة تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة داخل الضفة الغربية، من خلال إدخال عمال فلسطينيين للعمل في إسرائيل وتحويل المستحقات المالية، لأن وجود سلطة فلسطينية قوية ينطوي على مصلحة إسرائيلية.

 بعد العملية بساعة واحدة، سارع وزير القضاء السابق، عضو مجلس الحرب بصفة مراقب جدعون ساعر (من الحزب الدولاني برئاسة بيني غانتس) لنفي مقولة غالانت، بالقول إن: “العملية القاسية في رعنانا دليلٌ إضافي على عدم وجود إمكانية للتمييز بين هذا أو ذاك من بين العمال الفلسطينيين، سواء من الضفة أو غزة، لا سيّما في فترة حرب. حتى عمر العامل لا ينطوي على ضمانة بأن لا يقوم بعملية. علينا محاربة دخول ومكوث غير قانوني لعمال فلسطينيين حرباً شعواء: في المنع، والعقاب الشديد لكل من يساعدهم في السفر والحركة والمبيت والتشغيل”.

وهكذا وزير الأمن القومي، المدان بمحكمة إسرائيلية بالإرهاب، سارعَ للانقضاض على الفرصة، بغية تقديم برهان على صحة موقفه الداعي لحسم الصراع مع الفلسطينيين بالقوة والخناق، بما يشمل قطع أرزاقهم داخل أراضي 48. عن ذلك قال، في تغريدة في موقع “إكس”، موجهاً سهاماً لغالانت أيضاً: “وزير المفهوم المغلوط غالانت: هكذا بالضبط أجبتني حينما حذّرت، قبل السابع من أكتوبر، من إدخال عمال من غزة لإسرائيل. النهاية المرة بتنا جميعاً نعرفها. ربما حان الوقت لكي نستيقظ؟”.

ونشر بن غفير صورة تغريدة إخبارية وردت على لسان غالانت نشرت قبل عملية رعنانا بساعات، وجاء فيها: “غالانت يحذّر من اشتعال الضفة الغربية، ويقول: علينا ترتيب موضوع دخول العمال والأموال. سلطة فلسطينية قوية مصلحة أمنية إسرائيلية”.

تهدئة الضفة وإنعاش الاقتصاد الإسرائيلي
وقبيل وبعد عملية رعنانا، تدرس الحكومة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية نموذجاً جديداً لإدخال العمال الفلسطينيين يعتمد معايير أكثر صرامة، في محاولة لغربلة ومنع منفذي عمليات محتملين من الدخول ضمن مجموعات العمال المتاح لهم الدخول، ومن أبرز هذه المعايير أن يكون الفلسطيني الراغب بدخول أراضي 48 من أجل العمل متزوجاً ولديه عدد كبير من الأولاد، وليس معيار الجيل و”نظافة الملف الشخصي الأمني” فحسب.

كما يشمل النموذج الجديد، الذي سيطرح على طاولة حكومة الاحتلال، تدابير أمنية إضافية تقوم على منع احتكاك العمال الفلسطينيين بالإسرائيليين ومرافقتهم ذهاباً وإياباً من أماكن عملهم حتى المعابر التي يفدون منها، على أن يتم ذلك بالتدريج تبدأ بخمسة آلاف عامل، علماً أن هناك نحو 150 ألف عامل فلسطيني كانوا يعملون حتى السابع من أكتوبر، منهم 40 ألفاً يعملون لدى مشغلين إسرائيليين في الضفة الغربية، والبقية داخل أراضي 48.

وبسبب رفض الوزيرين بن غفير وباتسلئيل سموتريتش، لم تتباحث الحكومة الإسرائيلية، منذ شن الحرب على غزة، في موضوع إدخال العمال الفلسطينيين مجدداً، رغم أن المؤسسة الأمنية توصي بذلك منعاً لانفجار في الضفة الغربية، ورغم طلب الأوساط الاقتصادية التي تشدد على انهيار فرعي الزراعة والبناء لعدم دخول أيد عاملة فلسطينية.

نتنياهو الذي يوافق على هذه النظرية، وفقاً لتصريحات وتسريبات متتالية، لا يطرح حتى الآن هذا الموضوع على طاولة مجلس الحرب، لأنه يدرك أن بعض الوزراء يرفضون ويهددون مستقبل الائتلاف الحاكم، حسب ما أكدته القناة 12 العبرية.

في التزامن، تواصل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التحذير من حرمان العمال الفلسطينيين، وتشير إلى أن من نفذوا العمليات حتى الآن معظمهم “متسللون”، وبدون تصاريح عمل، ويحذرون أيضاً من استغلال “حماس” وإيران للفراغ والأزمة الاقتصادية للحض على القيام بعمليات ضد أهداف إسرائيلية وتوزيع أموال من أجل اقتناء السلاح وتنفيذ عمليات والمشاركة في مسيرات غاضبة الخ.

انهيار العقيدة الأمنية في 7 أكتوبر
لكن وزراء ونواب اليمين الصهيوني المتشدد لا يتورعون عن مهاجمة المؤسسة الأمنية، رغم أن بعض هؤلاء لم يؤد الخدمة العسكرية يوماً واحداً، ومنهم عضو الكنيست ليمور سون هار ميلخ (حزب “القوة اليهودية” برئاسة بن غفير)، التي قالت معلقة على النموذج الجديد لإدخال العمال الفلسطينيين وهو قيد الصياغة، إن ما نسمعه يدلل على أن وزير الأمن لم يتعلم شيئاً من السابع من أكتوبر. وتحاول تعليل رفضها لذلك بالقول: “الاعتقاد بأننا عندما ندفع المال لعرب غزة، ونسمح لهم بالعمل في إسرائيل سيمنع الإرهاب قد تفجر على أرض الواقع. محاولة استنساخ هذه الغلطة مع عرب الضفة الغربية هو خطير، وفي حال حاول غالانت اتباع سياسة استسلام فهو مدعو لتسليم المفاتيح، وأنا أعده ألا يأسف أحد على مغادرته وزارة الأمن”.

عنزة ولو طارت
اللافت أن عدداً قليلاً جداً فقط في إسرائيل يرى صورة الواقع كما هو وبشكل سليم، يقومون بتشخيص سليم واستنتاجات سليمة بعيداً عن الحلول الأمنية، رغم أن الأحداث الدامية المتتالية مدة طويلة تظهر أنها حلول وهمية.

 لم تنجح نظرية نتنياهو في غزة، بأن تخفيف شروط الحصار على مليوني فلسطيني داخل علبة ثقاب سيؤدي لتنفيس الضغط وضمان الهدوء، وأن الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية سيكرس الانقسام في الساحة الفلسطينية، يؤمن استبعاد الدولة الفلسطينية، ويتيح إدارة الصراع بكلفة معقولة جداً بالنسبة لإسرائيل.

واستنتج الإسرائيليون أن “طوفان الأقصى” قد أغرق، في السابع من أكتوبر، هذه العقيدة المغامرة، لكن المؤسسة الحاكمة تواصل محاولات تطبيقها داخل الضفة الغربية على مبدأ أن فتح باب العمل وتحويل المستحقات المالية للسلطة الفلسطينية سيؤمن الأمن والأمان والاطمئنان.

تدلل التجربة الواسعة أن محاولات التخدير و”السلام الاقتصادي” على أنواعه، ومساعي إدارة الصراع، والرهان على حلول أمنية ستنجح في مداواة أوجاع الرأس لساعات وأيام فحسب، وهي ليست سوى محاولة عبثية لتقديم حبة أسبرين لمعالجة مرض عضال، الاسم الحقيقي للاحتلال والاستيطان.

تدلل تجارب كثيرة جداً لدى الشعوب وفي التاريخ أن السيطرة على شعب ومنعه من نيل حريته وحقوقه واستقلالة بواسطة القوة وحسم الصراع بالقوة المفرطة هي محاولة حمقاء ودامية للطرفين ونهايتها الانهيار، فالسلام الاقتصادي لا يوفر الأمن للمحتل، حتى وإن ساد هدوءٌ نسبي لفترة محدودة.

في القدس توالت الهبات الشعبية، وحتى داخل أراضي 48 اشتعلت النار احتجاجاً على الظلم والانتهكات والفصل العنصري، عدة مرات، رغم أن الفلسطينيين هنا يحملون بطاقات الهوية الزرقاء.

حالة الغليان في الضفة الغربية الآن ليست خبراً جديداً والأزمة الاقتصادية تؤججها، لكن مصدرها الأساس هو الغضب على محاولات قتل غزة والغزيين، ومنبعها الحقيقي التنكيل بفلسطينيي الضفة الغربية يومياً بالحواجز المهينة، ومصادرة الأرض، وسرقة مواردها بالاستيطان والتهويد.

منذ إطلاق عملية “كاسر الأمواج” في عهد “حكومة التغيير” برئاسة بينيت ولبيد، عام 2021، تمكّن الاحتلال من تقليل مقدار الفعل المقاوم، لكن هذا استمر، ومستمر رغم الاعتقالات وجرائم القتل بالجملة، المبنية على نظرية “جزّ العشب”، أي قطع نمو المقاومة في مهدها، من باب الضربات الاستباقية.

الخلاصة الحقيقية أبسط مما يعرض علانية في إسرائيل: لكل فعل رد فعل. والمقاومة بنت الاحتلال ووقف النزيف له علاج واحد محتمل: رحيل الاحتلال. هذه هي خلاصة الكثير من خريجي المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ممن يبوحون بها فقط بعد إنهاء عملهم، كما تجلى في تصريحات رئيس الشاباك السابق عامي أيلون، في حديث لصحيفة فرنسية، أمس، قال فيها إن الحل هو دولة فلسطينية، وإطلاق سراح الأسرى، بمن فيهم مروان البرغوثي، الرئيس الفلسطيني القادم”. لكن هذا الصوت الداعي للحل السياسي ما زال صوتاً في البرية.

بلقنة الصراع
 حالياً هناك من يكتفي بالتلميح لذلك، وفي الرأي العام ما زالت أغلبية المعلقين والمحللين الإسرائيليين باقية داخل القطيع، وماضية في البحث عن مسكنات متساوقة مع توجهات المؤسسة الأمنية، وعلى سبيل المثال تأييدهم إدخال العمال الفلسطينيين، والرهان على أن هذا سيخفف مخاطر انفجار “طنجرة الضغط” الفلسطينية داخل الضفة الغربية.

ومن هؤلاء المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل، الذي يحذر من أن الأزمة الاقتصادية من شأنها استدراج تفجّر موجة عنف خطيرة داخل الضفة الغربية المحتلة تهدد السلطة الفلسطينية أيضاً. منوهاً بأن قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال قلقون من فقدان السيطرة، لكن من الصعب مشاهدة نتنياهو يصادق على إدخال عمال فلسطينيين”.

 هارئيل الذي يتحاشى التطرق للحل الإستراتيجي، والإشارة لشرور الاحتلال، محق بأن القادم أعظم، وبأن استمرار الحرب والتنكيل بالفلسطينيين وخنقهم داخل معازل ينذر بالمزيد من العمليات داخل المدن الإسرائيلية أيضاً، حتى بدون سلاح، كما حصل في رعنانا أمس، بل ينذر ببلقنة الصراع، بما يشبه مشاهد الحرب الأهلية في بعض دول البلقان في شرق أوروبا، قبل عدة عقود.

إلى اللقاء في هاغ
يتقاطع مع هارئيل الكاتب المعلق الصحفي بيت ميخائيل، الذي يقول، في مقال نشرته “هآرتس” اليوم الثلاثاء، إن إسرائيل ستجد نفسها على كرسي اتهام محكمة العدل الدولية من جديد، في 19 شباط القادم، ضمن النظر بدعوى أخرى ضدها قدمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت عنوان: “المعاني القانونية النابعة من سياسات وأفعال إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الشطر الشرقي للقدس”! ميخائيل الذي يضع الإصبع على الجرح، ويشير لخطورة الاحتلال على أصحابه أيضاً، يختتم مقاله بلهجة لا تخلو من السخرية المرة: “يبدو مثيراً..لا؟”.

ربما تكون نهاية الحرب على غزة بداية تفاعل وتشكّل نضوج جديد يخرج الإسرائيليين من حالة العمى والوهم بأنه بالمقدور تجفيف بحر غزة بالدلو، أو تحلية مياه البحر الميت بملعقة سكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى