أوبزيرفر: القصة الحقيقية وراء تردّد “بي بي سي” في عرض فيلم “مسعفون تحت النار”

نشرت صحيفة “أوبزيرفر” تقريرًا أعدّه منتجا فيلم “مسعفون تحت النار” بن دي بير ونافيتا نافاي، قدّما فيه القصة الحقيقية وراء تردّد هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عرض الفيلم، وتأخيره، وتأجيله، ثم إلغاء عرضه بعد انتظار طويل. وقالا إن مديري “بي بي سي” عبّروا عن دهشتهم من حضور نافاي للقاء لم تُدعَ إليه، حيث كان الهدف منه هو تحميلها اللوم. وكان اللقاء في أوائل أيار/مايو، حيث كانت هي وبير، منتجا الفيلم الذي أخرجه كريم شاه.
وكان على أجندة اللقاء إلغاء عرض الفيلم الذي طلبت “بي بي سي” إنتاجه، وقدّمت نافاي فكرته، وذلك للمرة الأخيرة، وقبل أيام من الموعد المقرر لعرضه.
وكانت هذه هي المرة السادسة التي توقفت فيها “بي بي سي” عن بث الفيلم، وهو تحقيق استغرق عامًا كاملًا في تدمير إسرائيل للنظام الصحي في غزة.
وقد أُكمل الفيلم، وقدّمه المحامون والمحررون للهيئة التي أثنت عليه، لكنها أخّرت عرضه عدة مرات. وكانت المبررات التي قُدّمت للتأخير لا علاقة لها بالفيلم نفسه، ولكن بتجربة “بي بي سي” في عرض فيلم آخر “غزة: كيف تنجو في محور حرب”، فقد قامت “بي بي سي” بتحقيق داخلي، بعدما ظهر أن الراوي للفيلم هو نجل وزير في حكومة “حماس” بغزة. وشعرت “بي بي سي” بالقلق لأن لديها فيلمًا عن غزة، ويتحدث عن استهداف المستشفيات والأطباء والمسعفين وقتلهم، وصنعته شركة تعمل مع صحافيين من الهيئة. وقد تم وضع الفيلم فعليًا على الرف، بعد أشهر من إرسال رسائل عن غير قصد، حيث عُقد اجتماع أيار/مايو لتقديم حل ممكن لتأخير عرضه، وهو تخفيض دور راميتا نافاي من مراسلة ومقدمة له إلى “مساهمة” أو “مراسلة تمثل طرفًا ثالثًا”.
وقد شعر منتجا الفيلم التنفيذيان بالدهشة، لكن اللقاء انحرف في طريق غريب. وقال المسؤولون التنفيذيون إن مشكلة الفيلم السابق، “كيف تنجو في محور حرب”، تكمن في رواية طفل والده كان مسؤولًا في “حماس”. فسألنا: هل كانوا يقارنون راميتا، المراسلة الساردة للفيلم، وهي صحافية استقصائية حائزة على جوائز، بابن وزير في “حماس” يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا؟ وبعد لحظة من الصمت، اكتشفوا سخافة المقارنة.
وفي النهاية أُخبر المنتجان أن بعض تغريدات راميتا نافاي كانت تمثّل جانبًا واحدًا، حيث كان لديهم الكثير من إعادة نشر التغريدات من منظمات تُبلغ عن معاناة ووفيات الفلسطينيين ولا تتعاطف مع الطرف الآخر، حسب قولهم.
وعلم المنتجان لاحقًا من مصادر داخل “بي بي سي” أنَّ قرارَ تخفيض مستوى ظهور راميتا نافاي في الفيلم، وبعد ثمانية أشهر من قرار “بي بي سي” تكليف الشركة بإنتاجه، صَدَرَ من أعلى مستويات إدارة الأخبار في “بي بي سي”، ومن الهيئة نفسها. وعندما طُلب من “بي بي سي” التعليق، لم تُنكر ذلك، وقالت إنها “تشعر بالقلق إزاء بعض أنشطة نافاي على مواقع التواصل الاجتماعي”. ومع ذلك، في نهاية الاجتماع، غادر أحد المسؤولين التنفيذيين الاجتماع معتذرًا بشدة: “أنا معجب جدًا بعملكم، وأحببت العمل معكم، وأعتذر بشدة، ما كان ينبغي علينا اقتراح هذه الفكرة”.
وأشار المنتجان إلى هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتي استهدفت مجمعات إسرائيلية ومهرجانًا، وتعهد الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بالانتقام، مستشهدة بالمذابح التوراتية. لكن لم يتوقع أحد ما تلا ذلك، وهي أسرع عملية قتل للمدنيين في هذا القرن، ولم يسلم منها أحد، حتى الأطفال والنساء والصحافيون، ومن كان من المفترض أن يساعد في إنقاذ أرواح المصابين، وهم الأطباء والمسعفون.
فالهجمات العسكرية على المستشفيات، أو البنى التحتية الصحية، محظورة تمامًا بموجب القانون الدولي، إنها جرائم حرب.
وبحلول أيار/مايو 2024، عندما تقدّمت الشركة بفكرة الفيلم إلى برنامج “بانوراما”، لم تُسجّل فقط مئات الهجمات على المؤسسات الصحية، بل قُتل مئات من المسعفين والأطباء. وفي الوقت نفسه، زادت الانتقادات لطريقة تغطية “بي بي سي” للحرب في غزة، ومنها المساواة الزائفة والتركيز والوقت المخصص لأحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر وما تلاها، رغم سقوط عشرات الآلاف من القتلى الفلسطينيين. لم تُظهر تغطية “بي بي سي” ما يراه الناس على هواتفهم: قتل الأطفال واستهداف المستشفيات، وإبادة عائلات بأكملها. وهي اتهامات ترفضها “بي بي سي”، وتقول إنها “تلتزم بأعلى معايير الحياد”، وأن الهيئة تعتقد أن ما تقدمه “صحافة عامة مهمة تستحق النشر”.
وبعد أشهر من العمل مع “بانوراما”، تلقّى المنتجان أموالًا تتعلق بتطوير الفكرة، وليس عقدًا، وكان كل شيء على ما يرام. لكن بعد ذلك، تلقّيا اتصالًا من أحد المديرين التنفيذيين يُخبرهما أنه يجب نقل اللجنة إلى المستويات الإدارية العليا، وأن كبار مسؤولي “بي بي سي نيوز” “متوترون للغاية ومتشككون” بشأن غزة، وأن أي تكليف يجب أن يُحال إلى أعلى مستويات “بي بي سي نيوز”. وتم عرض الفيلم على وحدة التحقيقات في “بي بي سي آي” التي قدّمت لهما تمويلًا للتطوير على الفور، وبدأ العمل مع الفريق. وسافرا إلى إسرائيل ومصر لإجراء مقابلات مع أطباء ومبلّغين عن المخالفات ومحامين وناشطين في مجال حقوق الإنسان. كانت شهادات الأطباء والمسعفين الذين فقدوا أحباءهم مؤلمة.
وأشارا إلى أنهما استمعا أكثر من مرة إلى ضرورة عدم تضمين تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، حيث قال أحد ممثلي السياسة التحريرية إن “الأمم المتحدة ليست منظمة مستقلة موثوقة”، وقد تكرّر هذا الكلام عن منظمة العفو الدولية.
وفي نفس الاجتماع، ناقش المنتجان طلب “بي بي سي” عدم تضمين شهادة طبيبين ومديرين بارزين في مستشفى اعتقلتهما القوات الإسرائيلية. فاستخدام شهادتين لسجناء تحت التعذيب، لا يُعد خرقًا لميثاق جنيف لمعاملة الأسرى فحسب، بل لمعايير هيئة الرقابة على البث الإعلامي “أوفكوم”، وقد تم حسم الجدل. ورغم إنكار “بي بي سي” أية نية لاستخدام شهادتي الطبيبين، إلا أنه يمكن إثبات عكس ذلك. وقد طغت على اجتماعات كتابة السيناريوهات إشارات إلى ما قد يقوله “كولير”، في إشارة إلى ديفيد كولير، وهو ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي اكتشف الفيلم السابق المحذوف. وفي أحد اجتماعات التحرير، وبعد مشاهدة الفيلم لأول مرة، قال أحد كبار مراسلي “بي بي سي” إنه لا ينبغي لهما استخدام معلومات معينة، لأن ذلك لن يكون مقبولًا لدى “كاميرا”، وهي منظمة تراقب وسائل الإعلام المؤيدة لإسرائيل. وقد تم تأجيل عرض الفيلم في شباط/فبراير لعرض فيلم عن غزة، ورغم الشكوى، إلا أن مسؤولين قالوا عن الفيلم إنه أعجب مديري الهيئة، ويعتقدون أنه “سيغير قواعد اللعبة”.
وبعد أيام من عرضه، أُثير الجدل حول “غزة: كيف تنجو في محور حرب”، وتم حذفه من خدمة “آي بلاير”. وبعد حذف الفيلم، مُنح المنتجان عددًا من المواعيد.
وقد تطابقت هذه التواريخ مع التواريخ التي أُبلغا بها من مصادر التحقيق الداخلي في فيلم “كيف تنجو في محور حرب”، وهو تقرير أعده بيتر جونستون، مدير قسم الشكاوى والمراجعات التحريرية في “بي بي سي”. وعلى مدى عشرة أسابيع، جادل المنتجان كبار المديرين والتنفيذيين حول ضرورة عدم السماح بتمزيق فيلم من خلال تحقيق في فيلم آخر، وظلا يتلقيان طوال تلك الأسابيع جوابًا أن هذا ليس ما يحدث.
وكُشف، في نيسان/أبريل، أن تأخير الفيلم وبثه متعلق بتقرير جونستون. وعندما رُفض المقترح من “بي بي سي” لحذف راميتا نافاي، بدأت الهيئة عملية إعادة الفيلم إلى الشركة المنتجة، وأن الهيئة ستبث مقاطع منه في برامجها الإخبارية، لكن الشركة المنتجة ستحتفظ بالفيلم لإصدارها الخاص.
وكانت القشة التي أدت إلى قتل الفيلم هي ظهور نافاي في برنامج “توداي” بـ”بي بي سي”، حيث اتهمت إسرائيل بأنها دولة مارقة، وأن الأدلة على ذلك جُمعت وقدّمت لـ”بي بي سي”، فردّت الأخيرة ببيان أنها لم يكن لديها أي خيار سوى وقف عرض الفيلم.
وتساءل الكاتبان: لماذا لم يُعرض هذا الفيلم الوثائقي في “بي بي سي”؟ وقد بُث منذ ذلك الحين على القناة الرابعة، ونال إشادة النقاد. “تواصل معنا مئات الأشخاص منذ بثه، منهم العشرات من داخل “بي بي سي”، وقال كثيرون منهم إننا “على الجانب الصحيح من التاريخ”. وبصفتنا صحافيين متخصصين في الأخبار وشؤون الساعة، لا نريد أن نكون على الجانب الصحيح من التاريخ؛ بل نريد أن نكون على الجانب الصحيح من الحاضر”.