اخبار

إسقاط الرغبة وتجاهل المعايير !

أتفق مع د. غانية ملحيس على أن انتصار الشعوب على الطغاة حقيقة محتملة، والانحياز يجب أن يكون لقوة الحق في مواجهة حق القوة، وأن هزيمة المستعمرين الإسرائيليين ممكنة، وتحتاج إلى تضحيات كبيرة، وأكبر دليل على ذلك أن هزيمة الفاشية والنازية تحققت بكلفة عالية.  
غير أن ذلك لا يحدث تلقائياً ويعتمد على استراتيجيات وخطط وقوى وطنية وثورية.
وقد تنتصر الثورات أو تتراجع  وتهزم.
إن وجود اختلاف وتباينات في رؤية طوفان 7 أكتوبر وآفاقه يعني وجود تقديرات متباينة  للعاملين الذاتي والموضوعي واختلاف في المعايير والقواعد المرجعية.  
هل نختلف في قراءة ميزان القوى والأسلوب الأنجح في انتزاع حريتنا؟
نحن نعيش داخل قبضة أمنية إسرائيلية قامعة ولديها فائض قوة، ونعيش حقيقة أن دولة الاحتلال تسيطر على الماء والكهرباء والغذاء والدواء والحركة والعمل والموارد والاستيراد والتصدير وكل شيء، مضافاً إليها النهب والمصادرة والاستيطان والقرصنة والتطهير العرقي والقمع المنهجي، وتستخدم كل هذه العناصر لإخضاع شعبنا وتصفية قضيته الوطنية. التفوق العسكري الهائل والحصار والتحكم في أساسيات وتفاصيل الحياة يقود بلغة المزاج العفوي إلى إحباط ويأس الناس، ويحتمل وقوع انفجار وتمرد ومقاومة وردود فعل فردية وجماعية عنيفة واحتجاجية لا تخضع لحساب الربح والخسارة، ولا الممكن وغير الممكن، ومن مظاهر ذلك ظاهرة الطعن والدهس وظاهرة إطلاق النار بمبادرات فردية.
أما بلغة الوعي الذي من المفترض أن تحمله تنظيمات سياسية ونخب ثقافية وأكاديمية وإعلامية، وتحدد من خلاله الاستراتيجية والتكتيك الأهداف البعيدة والقريبة، وأشكال النضال التي تستطيع منع أو إعاقة وإفشال أهداف دولة الاحتلال، وتحقيق أهداف وطنية ومدنية ومراكمة الإنجازات التي يفترض أن تتوج بالتحرر وتقرير المصير.
ضمن خصائص السيطرة والتحكم والحصار، والادعاء الإسرائيلي بأن أرض فلسطين ممنوحة من الله لليهود وتحول هذا الادعاء إلى مكون أساسي في الثقافة والفكر الإسرائيلي السائد ما يضفي تعقيداً على الصراع،  وفي ظل افتقاد خيار المقاومة إلى رافعة وعمق عربيين، أو دعم واحتضان من دول كبرى كروسيا والصين، مقابل دعم أميركي وغربي  مفتوح للمحتلين.
بناء على ما تقدم لا يمكن اعتماد المقاومة المسلحة كشكل رئيس لنضال الشعب الفلسطيني علما أنها مشروعة بحسب القانون الدولي، وقد تكون في أفضل حالاتها شكلاً دفاعياً اضطرارياً، كما لا يمكن اعتماد المواجهة المسلحة – شبه جيش مقابل جيش محترف – وحرب غالب ومغلوب؛ لأنها لا تكون متكافئة أبداً، ومن السهل تدميرنا من قبل آلة الحرب الإسرائيلية كما يحدث في قطاع غزة الآن.
الصراع استناداً للخصائص الواقعية يكون بكسب النقاط ومراكمتها عبر معارك صغيرة وبتطوير قدرة المجتمع على النمو والصمود والمشاركة في نضال متعدد الأشكال والمجالات وهو أهم عنصر في التحرر.
وبناء جسور الدعم والتضامن مع شعوب وقوى ومنظمات وحلفاء. فيما مضى دعت أدبيات الثورة إبان صعودها إلى “حرب الشعب طويلة الأمد” وكانت أقرب إلى المعقول.
للأسف فإن طوفان الأقصى والحروب الأربع تنتمي إلى حرب المواجهة المسلحة التي لم تكن في مصلحة التحرر.  
القضية الأخرى التي لا تقل أهمية هي طبيعة قيادة المقاومة فيما إذا كانت مؤهلة لقيادة الفعل الثوري الذي يفضي إلى التحرر.
المقاومة تسمي نفسها “مقاومة إسلامية”، وما يعنيه ذلك من اعتماد هوية فرعية دينية كبديل عن الهوية الوطنية الجامعة، وفي حالة لبنان والعراق واليمن تنحسر المقاومة إلى هوية مذهبية شيعية.
احتكار المقاومة من قبل الإسلام السياسي السني والشيعي، يحيلنا إلى فكر الإخوان المسلمين والفكر الخميني وكلاهما ضد التعدد السياسي والثقافي والديني، حيث سحقت الثورة الخمينية كل القوى التي شاركت في الثورة ضد حكم الشاه التابع واستفردت بالحكم والتمثيل وصادرت الحريات العامة والخاصة.  
ولا تختلف تجربة الإخوان المسلمين عن الخمينية في هذا المجال فقد سعى الإخوان إلى “أخونة” مؤسسات الحكم في غزة والسودان ومصر وتونس وتركيا إبان حكمهم.  
هذا المحور المقاوم ساهم في قمع الانتفاضات الشعبية والحراكات الشبابية في سورية والعراق ولبنان وغزة وانحاز بعضه إلى أنظمة مستبدة ضد انتفاضة شعوبها السلمية.
الأهم أن إيران قائدة محور المقاومة الإسلامية لها أطماع من طبيعة استعمارية في بلدان عربية وقد سيطرت فعلياً على 4 عواصم عربية عبر تنظيمات المقاومة وأحالت دولها إلى هامش الحكم.
المفارقة أن سيطرة إيران على تلك البلدان ومعها قطاع غزة يأتي بهدف تحسين شروطها كدولة إقليمية شريكة في إطار الهيمنة الأميركية، وهي تستخدم المقاومات كأوراق ضغط وتهديد، ولا يعنيها تحرر الشعوب العربية من الاحتلال الاستعماري.
وكان أداؤها بعد 7 أكتوبر مخزياً حين تنصلت من وحدة الساحات وتركت قطاع غزة وحيداً باستثناء الإسناد الذي بادر إليه حزب الله وإسنادات رمزية من الحوثيين والحشد الشعبي وكلها لم تمنع حرب الإبادة في قطاع غزة، وفعلت إيران الشيء نفسه مع حزب الله في لبنان حين لعبت دور شاهد زور على استفراد آلة الحرب الإسرائيلية بالحزب، وتتوسل وقفاً لإطلاق النار في لبنان بمعزل عن غزة ووحدة الساحات.
وبقيت سورية أحد أركان محور المقاومة والممانعة تتعرض لاعتداءات إسرائيلية صباح مساء دون رد أو حتى توضيح.
لماذا الرهان على محور مقاومة بهذا الأداء الهش في قيادة  المعركة، مضافاً إليه ثقافة وفكر التعصب والعداء للحريات العامة والخاصة وللعلمانية والتنوير والعدالة والمساواة، فكر يفصل التحرر الوطني عن التحرر الاجتماعي.
أغرب ما في الأمر أن مؤيدي وداعمي محور المقاومة من العلمانيين واليساريين والمتنورين والأكاديميين لا ينقدون أياً من المثالب الكبيرة لمحورهم مخالفين بذلك القواعد الناظمة،  كالتحالف والصراع، أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف، السير منفردين والضرب معا..فقط يتماهون مع المحور وفصائله كونهم يحاربون في أمة لا تحارب متناسين أن الحرب امتداد للسياسة.
أجّل الجنرال جياب الهجوم الفيتنامي في “ديان بيان فو” ضد  المستعمرين الفرنسيين بسبب نقص الرز والغذاء لمواطنيه، وعندما سد هذه الثغرة شن الهجوم الذي حقق فيه نصراً عظيماً.   
أما عندنا وفي محور المقاومة فساد عدم الاكتراث والاستخفاف بحياة البشر وبحاجاتهم ومقومات صمودهم منذ البداية وحتى الآن، تجاهلوا العنصر البشري وهو الرأسمال الأهم في عملية التحرر، فالشعب هو المقصود بالتحرر، وهو شريك أساسي في المعركة.
لقد جرى إسقاطه من المعادلة، فلم يبن ملجأ واحداً على الأقل للأطفال والحوامل والمسنين والجرحى والمرضى وأصحاب الاحتياجات، لم يخزن الغذاء والدواء، لأنه لا معنى لأرواح البشر.
هذا النوع من الخسائر دون ثمن حتى لو كان الاقتراب سنتيمترات من التحرر والخلاص، ومن يتشكك في ذلك ليعد إلى مشاريع الصفقات، إنها تتضمن وضع القيود الغليظة الكفيلة بمنع المقاومة من لبنان أو غزة على أقل تقدير، إن العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر هي أقصى ما تطمح المقاومة للحصول عليه، ولكنها لن تحصل عليه بفعل التدمير والسيطرة العسكرية الإسرائيلية والإمساك بشروط إعادة الإعمار.
إذاً ما هو ثمن السكوت على استمرار حرب الإبادة واستمرار عذاب وقهر وإذلال 2.3 مليون مواطن في قطاع غزة ؟ الثمن المنشود هو بقاء الفصائل وسلطاتها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى