اخبار

إعادة إنتاج أخطاء حرب العام 1948..محمد ياغي

شئنا أم أبينا، فلقد وفرت أحداث السابع من أكتوبر، أو ما أصبح يُعرف فلسطينياً بـ «طوفان الأقصى»، فرصة إستراتيجية للعرب لتحرير أراضيهم والوصول الى سلام عادل مع دولة الاحتلال، أو لنقل الى سلام يُمكن قبوله والتعايش معه؛ ووفر في نفس الوقت فرصة لدولة الاحتلال (إن انتصرت) لرسم خطوط هُدَن جديدة مع العرب تُوسِع من خلالها حدودها الجغرافية وهيمنتها على حسابهم.
كما يبدو، ورغم أن الحرب لم تنته بعد، فإن العرب يسيرون في اتجاه منح دولة الاحتلال الفرصة لرسم حدود هيمنتها الجديدة. بدأت المسألة بغياب الأهداف المشتركة في معركة الطوفان والتي كانت النتاج الطبيعي لغياب غرفة العمليات المشتركة بين أطراف «محور المقاومة»، مروراً بمرحلة الهُدن الأحادية بداية مع لبنان، والآن مع سورية «الجديدة»، في الوقت الذي تستمر فيه دولة الاحتلال برفع شعارها على الجبهة الفلسطينية: الاستسلام والخضوع أو الإبادة.
يُذكرنا ما يجري اليوم بحرب العام 1948 لأن العرب يعيدون اليوم إنتاج أخطائهم التي ارتكبوها فيها من غياب للأهداف الموحدة والتنسيق وصولا الى مرحلة الهُدن التي عقدتها الدولة «اليهودية» الوليدة مع كل دولة عربية على حدة.
قيل الكثير بشأن نكبة العام 1948 من قبل العرب ومن قبل دولة الاحتلال. الأخيرة صورت انتصارها على أنه مُعجزِة حققتها ضد سبعة جيوش عربية اجتمعت لمنع قيام دولتها بعد قرار التقسيم، في حين اكتفى العرب بلوم بعضهم البعض على الهزيمة واستغلالها لتصفية الحسابات داخل أوطانهم.
لكن العديد من الدراسات الاكاديمية تُبين الكثير من حقائق ما حدث العام 1948، وهي تشير بوضوح الى أن العرب يُكررون اليوم نفس الأخطاء التي ارتكبوها سابقاً، ويُمكن تلخيص ذلك هنا في عدة نقاط:
أولاً، لم تَكن هنالك أهداف مُحددة ومتفق عليها بين العرب عندما دخلت جيوشهم الحرب. العرب لم يحاولوا منع قيام دولة إسرائيل ولم تَدخل جيوشهم أية منطقة تم تخصيصها وفق قرار التقسيم للدولة «اليهودية» في الوقت الذي كان إعلامهم فيه يتحدث ضد هذا القرار استجابة لمطالب الشعوب العربية.
يقول الباحث الإسرائيلي يغال إليام، بأن الجيش المصري توقف في أسدود شمال غزة، على الرغم من انه لم تكن هنالك عقبات تعيق تقدمه شمالاً، بمعنى انه التزم بالحدود التي تم إقرارها في قرار التقسيم (أسدود كان من المفترض أن تكون جزءاً من الدولة العربية). والجيش الأردني الأفضل تسليحاً من أي جيش عربي آخر، كان في ذلك الوقت تحت قيادة الجنرال البريطاني كلوب باشا، لذلك التزم أيضاً بقرار التقسيم، حيث دافع عن القدس العربية وتمكن من صد الهجمات عنها (لأنها كانت جزءاً من الدولة العربية وأجبر الميلشيات اليهودية على الانسحاب من منطقة الشيخ جراح التي كانوا قد احتلوها)، لكنه لم يذهب أبعد من ذلك في الحرب واكتفى بمحاولة الاحتفاظ بالأراضي المقررة للدولة العربية. وكذلك فعل الجيش العراقي حيث انسحب من قلعة «غيشر» (الجسر، جنوب طبريا) وانتقل الى مثلث نابلس – جنين – طولكرم والتي لم يكن بها يهود أصلاً وفقاً لما وثقه صائب الجبوري رئيس أركان الجيش العراقي في ذلك الوقت. مُختصر الكلام، كان هنالك التزام عربي غير مُعلن بقرار التقسيم، رغم تطبيل الاعلام بأن الجيوش العربية دخلت المعركة لمنع قيام الدولة اليهودية.
واليوم أيضاً نعيش نفس مأساة غياب الأهداف الجامعة: «حماس» أعلنت الحرب على أمل التحاق الآخرين بها ولتحويلها الى حرب تحرير «لكل العرب». وحزب الله والمقاومة العراقية وأنصار الله دخلوها تحت شعار إسناد «المقاومة الفلسطينية» والقبول بما تَقبل به «حماس» نهاية للحرب، في حين أن سورية قد امتنعت عن المشاركة. لكن هدف «التحرير» الذي أرادته «حماس» لهذه الحرب، لم يَكن بالمطلق هدفاً مشتركاً لكل من دخل هذه الحرب.    
ثانياً، لم يكن هنالك تنسيق بين الجيوش العربية، ولم تكن لها غرفة عمليات واحدة، وكل دولة كانت تقوم بما تعتقد أنه يخدم الأهداف التي وضعتها هي لنفسها خلال الحرب.  
يقول آفي شلايم، وهو مؤرخ إسرائيلي- بريطاني إن «القوة العربية التي واجهتها إسرائيل عام 1948 كانت من أكثر الجيوش فوضوية وانقساماً وأقلها تنظيماً على مدار التاريخ الحديث، ولم يكن لديها هدف ومشروع متفق عليه». أما الباحث العراقي أحمد الميالي فيقول إن «النقراشي باشا رئيس وزراء مصر قد عَبر عن غضبه في اجتماع مع القادة العرب في الأيام الأخيرة من الحرب بسبب معاناة الجيش المصري الشديدة في الفلوجة، والتي لم يحصل خلالها على الدعم من بقية الجيوش العربية»،  ما عرضه لخسائر فادحة دفعته الى الانسحاب من أسدود باتجاه غزة عندما تم توقيع اتفاق الهدنة النهائي.
وغياب غرفة العمليات المُشتركة هذه كانت ولا زالت السمة الأبرز في معركة «طوفان الأقصى»، وهو ما أفقد «جبهة المقاومة» القدرة على المبادرة، وما سمح لدولة الاحتلال أن تقرر إيقاع حربها على كل جبهة بالطريقة التي تريد.
ثالثاً، لم يمتلك العرب أسلحة فاعلة في ذلك الوقت، حيث كان هنالك قرار دولي بعدم تسليح الأطراف «المتحاربة» لإلزامها بقبول قرار التقسيم. كما أن هيمنة بريطانيا على القرار السياسي في عدة دول عربية في ذلك الوقت حرمها من إمكانية التسلح، في الوقت الذي سمح فيه الاتحاد السوفيتي لدولة تشيكوسلوفاكيا بتقديم أسلحة حديثة للميليشيات اليهودية.
بمعنى أن المشكلة في ذلك الوقت لم تكن مسألة سلاح فاسد كما يُشاع، بل غياب الإمكانيات عند الجانب العربي، لدرجة أن مصر نقلت جنودها للجبهة عن طريق شركات خاصة وليس بعربات جنود عسكرية.
في معركة طوفان الأقصى لعبت روسيا نفس دور بريطانيا في حرب العام 1948، فهي منعت سورية التي كانت تمتلك الأسلحة الاستراتيجية من المشاركة في الحرب (رغم أننا لا نستطيع القطع بذلك هنا، فالنظام السوري لم يكن في أي مرحلة على استعداد لمواجهة إسرائيل، لكننا نعلم على الأقل بأن روسيا سمحت لإسرائيل بمهاجمة سورية كل الوقت ولم تبادر في الدفاع عنها).
رابعاً، قيام كل جهة عربية على حدة بتوقيع اتفاق هدنة خاص بها. الهدنة الأولى بين الأردن وإسرائيل في حزيران 1948. ثم لاحقاً بين مصر وإسرائيل في شباط 1949 وبعده مع لبنان في آذار، ثم مع الأردن في نيسان، وبعدها في تموز مع سورية، وهو ما نتج عنه زيادة المساحة المقررة للدولة اليهودية من 55٪ من أرض فلسطين التاريخية الى 78٪ منها.  
وهذا بالضبط ما جرى في معركة طوفان الأقصى. هُدنة مع حزب الله لوحده لإخراجه من المعركة، وأخرى مع إيران لوحدها، ومفاوضات مع سورية «الجديدة» على هُدنة ستتكشف شروطها قريباً.
باختصار يُعيد العرب إنتاج ما قاموا به العام 1948 من غياب للأهداف الواضحة ولغرفة العمليات المشتركة، ومن اتفاقيات او «هُدن» يعقدونها مع دولة الاحتلال كلاً على حدة.
في العام 1948 كانت نتيجة هذا السلوك خسارة 23٪ من المساحة المقررة للدولة «العربية» وفق قرار التقسيم، وتشريد ثُلثي الشعب الفلسطيني من أرضه. اليوم، تكرار نفس الأخطاء، قد يؤدي الى تهجير ما تبقى من الفلسطينيين، وسيطرة دولة الاحتلال ليس فقط على كامل فلسطين التاريخية ولكن على أجزاء جديدة من لبنان وسورية.    
لم تنته الحرب بعد، وما يجري يُمكن تفاديه إن غيرت الأطراف العربية المُتضررة بشكل مباشر طريقها، وأدركت أن الحل ليس في سعي كل طرف للحصول على هُدنة خاصه به، بل في العمل المشترك لخلق واقع جديد يُلزم دولة الاحتلال الذهاب الى مشروع «سلام عادل» لإنهاء الحروب في المنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى