الرجوب: اتفاق اوسلو دفن ولا مكان له حاليا وعلى “حماس” المقاربة لرأب الصدع
أجرت “المجلة” حوارا شاملا مع الفريق جبريل الرجوب بمكتبه في رام الله بالضفة الغربية المحتلة، عن خارطة الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعد حرب غزة وهجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وشرعية النظام السياسي الفلسطيني الراهن متمثلا في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
تحدث الرجوب عن كيف أصبحت فلسطين مشروعا للعالم بأسره اليوم، بعد أن كاد ينساها، وأن أي حلول مستقبلية يجب أن تشمل حركة “حماس”، لأنها حركة أيديولوجية وفصيل مقاوم متجذر في النسيج الاجتماعي الفلسطيني.
لكن ينبغي على “حماس”، على حد تعبيره، التقدم بمقاربة سياسية تقبل بالمنظومة الدولية ولرأب الصدع الفلسطيني.
وقال الرجوب أيضا إن حرب غزة أوضحت بما لا يدع مجالا للشك لدى الإدارة الأميركية والغرب عموما أن سلوك اليمين الفاشي في إسرائيل أصبح يشكل خطرا على مصالحهم ويتناقض كليا مع ما يعتقدون أنه آلية تحقيق الاستقرار الإقليمي والسلم العالمي، إذ ثبت للجميع أن الحرب في غزة هي حرب على الشعب الفلسطيني وليست على “حماس”. ويضيف: “حماس بالنسبة لنا خصم سياسي وصراعنا معها صراع ديمقراطي، أخلاقي، قيمي، صراع له علاقة بروايتنا على وعي هذا المواطن الفلسطيني الذي هو أنبل أصولنا الوطنية”.
ويضيف أن نهاية الانقسام الفلسطيني لا تعتمد على حسن النوايا ولا على النصوص، ولكن تتوقف على تجاوز الترسبات السياسية، الأيديولوجية، الاجتماعية الموجودة بين الفرقاء.
وشدد الرجوب على أهمية توفير الحماية الدولية للفلسطينيين من الاحتلال الإسرائيلي.
وإلى نص الحوار:
* هل يمكن إحياء “اتفاق أوسلو” اليوم؟ نحن أمام حكومة إسرائيلية يقودها اليمين المتطرف، رئيسها بنيامين نتنياهو ويفتخر علنا بأنه، كما يقول، الوحيد الذي يستطيع الحؤول دون قيام دولة فلسطينية، فهل يمكن إحياء “أوسلو” اليوم؟
– “اتفاق أوسلو” دُفن، ولا مكان له في هذه المرحلة، فاستراتيجية نتنياهو واليمين الإسرائيلي قائمة منذ 1996 إلى الآن على مسألتين: إنهاء أي التزام إسرائيلي حتى لو كان شكليا يقر بوجود الشعب الفلسطيني وبحقوقه السياسية، بما في ذلك إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على الأراضي المحتلة عام 1967.
الموضوع الثاني: إحداث تغييرات جغرافية وديموغرافية وفرض حقائق على الأرض لإنهاء فكرة الدولة موضوعيا من خلال الاستيطان ومن خلال عملية التهويد للأراضي الفلسطينية وعلى رأسها القدس، فكل سنتيمتر فيها وكل إنسان وكل مؤسسة مستهدفة من جانب اليمين الفاشي الإسرائيلي، ولكنّ الجديد اليوم مسألتان: الأولى هي التحول في الرأي العام الدولي، وهو أحد ارتدادات حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي مورس في القدس وفي معظم مدن الضفة الغربية، وانتقلت بعد 7 أكتوبر إلى قطاع غزة في محاولة لاجتثاث الفلسطينيين هناك، وخنقهم هنا، لتحقيق الأهداف الاستراتيجية غير المباشرة لهذا العدوان الأحادي الجانب على فلسطين والذي له علاقة- كما قلت- بإنهاء فكرة الدولة وتطبيق الضم الزاحف للأراضي المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية وشرق القدس. هذا التحول بدأ يُترجم بمواقف، سواء كان في مجلس الأمن أو في أركان الأقطاب الدوليين كأميركا وآخرين بأن درجة التناقض بين مصالحهم ومفهومهم للشرعية الدولية وبين سلوك اليمين الفاشي في إسرائيل أصبح يشكل خطرا على مصالحهم ويتناقض كليا مع ما يعتقدون أنه آلية تحقيق الاستقرار الإقليمي والسلم العالمي من خلال حل الصراع بإقامة الدولة الفلسطينية، وهم أنفسهم يقولون إنه مصلحة لاستمرار وجود إسرائيل ودمجها في منطقة الشرق الأوسط، ولكن في إطار الحدود المعترف بها دوليا وهي حدود عام 1967. هذه هي التحولات الجديدة في السياق الإقليمي والدولي.
* لكن “اتفاق أوسلو” بدأ، آنذاك، في إرساء قواعد الدولة الفلسطينية المرتجاة، نحن نتحدث عن اعتراف دولي من منظمات دولية بدولة فلسطين، وسفارات لدولة فلسطين؟
– عندك إفرازات أصبحت حقائق لا يمكن التلاعب بها، أعتقد أن هناك أربع حقائق تكرّست في الواقع الوطني الفلسطيني وفي وعي العالم وعلى أجندة المجتمع الدولي، الحقيقة الأولى: أن الدولة الفلسطينية المستقلة عنصر واجب الوجود في معادلة الصراع. الحقيقة الثانية: تثبيت منظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني. الحقيقة الثالثة: السلطة الوطنية حقيقة واقعة على الأرض لتقديم كل الخدمات والرعاية للفلسطينيين في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك شرق القدس. الرابعة أن الفلسطينيين أمسكوا بزمام الأمور وأصبح قرارهم وطنيا نابعا من واقعهم، منسجما مع طموحاتهم وتطلعاتهم وفهمهم لمصالح الغلاف الإقليمي والمجتمع الدولي، فهذه الحقائق بالتأكيد جزء منها تراكمي، وجزء منها يأتي من الممارسات الإسرائيلية ورد الفعل الفلسطيني، وإصرار العالم على حماية الاستقلال الوطني الفلسطيني.
* هل المشكلة اليوم التي تعترض طريق إقامة دولة فلسطينية تكمن في حكومة إسرائيلية راهنة بقيادة نتنياهو، أم إن المشكلة تكمن في الفكر السياسي الإسرائيلي؟ أنا قابلت يائير لابيد زعيم المعارضة الإسرائيلية ورئيس الوزراء السابق في ديسمبر/ كانون الأول، وقال لي إن فكرة الدولة الفلسطينية لم تمت، ولكن ستتأخر بشكل كبير بعد السابع من أكتوبر؟
– السبب غياب الإرادة الدولية وعلى رأسها إرادة أميركا وأوروبا في مواجهة السياسات الإسرائيلية التي لها علاقة بالاستيطان، بفرض حقائق، وبأسرلة الأراضي الفلسطينية في محاولة لنفي فلسطين أرضا وشعبا وتاريخا ومقدسات من الخارطة السياسية، غياب هذه الإرادة جعل الموقف الأوروبي والأميركي متماهيا مع سلوك وسياسات إسرائيلية يمينية فاشية، الموضوع الآخر، في تقديري، هو موضوع الانقسام الفلسطيني الذي يساعد على خلق بيئة تتلاعب بالأولويات عند الفلسطينيين. وأعتقد أيضا أن الحال العربية وما حصل، خلال العقد ونصف العقد الماضي، شلَّ قدرة العامل العربي في التأثير على الاحتلال الإسرائيلي، ومن هنا يتصرف الجانب الإسرائيلي ميدانيا وكأن الأرض أرضه، مع أن عدد الذين يعيشون من النهر إلى البحر حوالى 15 مليونا، أكثر من 50 في المئة منهم من غير اليهود، وأقل من 50 في المئة منهم يهود.
يعيش داخل إسرائيل، مليون ومئة ألف فلسطيني، و400 ألف هاجروا- وكانوا يشكلون 40 في المئة من الذين هاجروا من دول الاتحاد السوفياتي سابقا وهم أيضا من غير اليهود- وهذه المشكلة بالتأكيد تؤرق العالم. يعني نحن موجودون هنا منذ 1967 في القدس والضفة وغزة، خمسة ملايين ونصف المليون فلسطيني. فحديث لابيد لا أعتقد أنه يعبر عن موقف صادق، هو ليس أكثر من ضريبة كلامية أمام الرأي العام لقناعته بأن هناك اليوم رفضا كاملا للسلوك الإسرائيلي حتى من أقرب حلفاء إسرائيل في أميركا وأوروبا، ما حصل ويحصل في غزة، وما يحصل في القدس وفي كل مدن الضفة الغربية خلق حالة من الصحوة في المجتمع الدولي، وردة الفعل الشعبية في كل دول العالم تترجم إلى مواقف رسمية من الحكومات بما فيها أطراف شكلت حاضنة حامية موردة للسلاح لدولة إسرائيل، وآخرها ما يحصل في أميركا.
* ذكرت في معرض حديثك الآن ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني، ما السبيل للوصول إلى مشروع وطني فلسطيني ينهي هذا الانقسام بعد محاولات عديدة، نحن نتحدث عن عشرات المحاولات التي باءت بالفشل لرأب الصدع؟
– الآن حجم الجرائم الإسرائيلية والتصعيد الإسرائيلي، والذي هو سياسة ثابتة منذ 1948 إلى الآن، ووتيرته تصاعدت بعد 7 أكتوبر، البعض أراد أن يحاكم الشعب الفلسطيني على ما قامت به “حماس” وتجاهل أن هذا سياق يمتد من 1948 إلى الآن، ولا يريد أن يقتنع بأن ما حدث هو ردة فعل، فهناك ضغط موجود على أكثر من مليوني شخص في غزة يعيشون منذ 16 سنة حالة حصار وخنق، 4 و5 حروب شُّنت ودمّرت وقتلت، إلى ما يحدث في القدس وما يحدث في كل مكان. فهناك جزء من العالم بدأ يتعامل على أساس أن هذا فعلا يأتي في سياق رد الفعل، واليوم أصبح هناك إدراك، بما في ذلك عند الإدارة الأميركية لوحدة الأراضي الفلسطينية، ووحدة القيادة ووحدة القرار من خلال أيضا تحديد وحدة الهدف، والتي هي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وحل مشكلة اللاجئين وفق قرارات الأمم المتحدة، وهذا يعتبر إنجازا في سياقه، ما يجب أن يشكل عاملا ضاغطا علينا جميعا كفلسطينيين، سواء كان عند إخواننا في حركة “حماس” أو عند فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، أعتقد أنه يجب أن يكون هناك خطوة من إخواننا في “حماس” تقدم مقاربة سياسية، نضالية وتنظيمية، مقاربة سياسية لها علاقة بأهدافنا بإقامة دولتنا المستقلة كاملة السيادة والقدس عاصمتها حسب قرارات الأمم المتحدة.
الموضوع النضالي نحن من حقنا كشعب تحت الاحتلال أن نمارس كل أشكال النضال والمقاومة، ولكن في ظل هذا الإجماع الدولي الذي يوفر لنا حاضنة ولا ينقص سوى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، مع حقنا في كل أشكال المقاومة بما فيها الكفاح المسلح، وهذا قانون عالمي وفي الأمم المتحدة، أن تكون المقاومة الشعبية الشاملة هي خيارنا الاستراتيجي.
والموضوع الثالث له علاقة بمنظمة التحرير، هذه المنظمة قدمت التزامات تجاه الشعب الفلسطيني الذي قَبِل بها ممثلا شرعيا وحيدا وناطقا باسمه، وهي قدمت التزامات تجاه الاستقرار الإقليمي وتجاه السلم العالمي والشرعية الدولية، فيُفترض أن يقبل إخواننا في “حماس” بهذه المنظومة، أو يقدموا مقاربة تؤسس لحوار ثنائي فتحاوي حمساوي، وهذا الحوار يجب أن يرتكز على 4 أسس: الأساس الأول وحدة الأراضي الفلسطينية بما فيها أراضي الضفة الغربية وشرق القدس وقطاع غزة. الموضوع الثاني أن يرتكز على وجود أفق سياسي لحل الصراع وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني. والثالث انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ورفع الحصار عنها، ووقف كل الأعمال العدائية الأحادية الجانب في غزة وفي الضفة والقدس.
والموضوع الآخر توفير كل أسباب القدرة على مواجهة استحقاقات المستقبل، بالمعنى المالي، أي بكل ما له علاقة بمشروع دولة لإعمار غزة، وتوفير أسباب الصمود لأهلنا في القدس وفي كل الأراضي الفلسطينية.
تشكيل حكومة وفق هذه الأسس تقود المرحلة يُفترض أن يكون أعضاؤها قادرين على الحركة في كل العالم. وثانيا لديهم مصداقية ولديهم احترام وثقة من الشعب الفلسطيني. أيضا يجب تهيئة الشعب الفلسطيني لإجراء انتخابات حرة وديمقراطية في كل الأراضي الفلسطينية، والتي من خلالها يتم بناء الشراكة بين كل مكونات المجتمع الفلسطيني سواء من هم داخل المنظمة أو خارجها.
وإذا اتفقنا على ذلك عندها نتوجه إلى حوار وطني شامل ترعاه جمهورية مصر العربية، وهذا الحوار يجب أن يحقق 4 قضايا بمنطق تطوير وحدة المفهوم الوطني بالإجماع: أولا الحل السياسي، وثانيا وحدة المفهوم لمقاومة هذا الاحتلال، وثالثا وحدة المفهوم على شكل هذه الدولة، فهذه الدولة يجب أن يكون فيها سيادة قانون، وسلطة واحدة، وقانون واحد، وسلاح واحد، وشرطي واحد، وحرية تعبير عن الرأي، وحقوق إنسان، وأنبل وأسمى أشكال الحياة الديمقراطية المريحة لهذا المواطن الفلسطيني العظيم الذي فشلت كل أعمال الإرهاب والإذابة والقهر في كسر إرادته وانتصر، فيستحق أن يعيش في دولة فيها سلطة واحدة، فيها تعددية سياسية لا تعدد سلطات.
البند الرابع هو وحدة المفهوم لآليات إجراء انتخابات كمدخل وحيد لانتخاب قيادة للشعب الفلسطيني وتكريس الشراكة من خلال عملية ديمقراطية ومن خلال صناديق الاقتراع وليس من خلال صناديق الرصاص. أعتقد أن هذه هي خارطة الطريق في هذه الظروف وفق التحولات الوطنية والإقليمية والدولية التي تتطلب من الكل أن يستخلص العبر ويتوجه إلى مربع الوحدة ومربع إنهاء الانقسام.
* بعد أشهر من الحرب في غزة، هل تعتقد فعلا أن الهدف السياسي الرئيس لإسرائيل هو القضاء على حركة “حماس”، أم إن لها أهدافا سياسية أخرى؟
– نحن كفتحاويين، لا يمكن، ولا نقبل أن نعمل على نتائج موازين قوى يمليها العدوان الإسرائيلي والحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وهي حرب على الشعب وليست على “حماس”. “حماس” بالنسبة لنا خصم سياسي وصراعنا معها صراع ديمقراطي، أخلاقي، قيمي، صراع له علاقة بروايتنا على وعي هذا المواطن الفلسطيني الذي هو أنبل أصولنا الوطنية. الآن الإسرائيليون أو هذه الحكومة الفاشية التي على رأسها هؤلاء النازيون الجدد، كما قلت، هي جزء من سياق لإنهاء فكرة الدولة وتكريس واقع الأسرلة في الضفة الغربية وشرق القدس كمقدمة لضم هذه الأراضي، بفهمهم هم القانوني. طبعا هم يسعون لإفراغها من سكانها، ولكن خسئوا. هذا الصمود الملحمي لهؤلاء المقدسيين، الذين كل واحد فيهم على قائمة الاستهداف للسياسات في كل شيء، في لقمة عيشه، في علاجه، في تعليمه، في سكنه، في حركته وفي حياته الإنسانية. وهذا نموذج لما يحصل في كل المدن، في كل القرى، وكل التجمعات وكل المخيمات في الضفة، وجاءت هذه المجزرة غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية، فـ5 في المئة من المواطنين الذين يعيشون في غزة إما شهيد، وإما أسير، وإما جريح، والله أعلم بالحقائق، لأن الكثيرين ما زالوا تحت الركام.
هذا هو الواقع الذي يعمل عليه نتنياهو، فهدفه الحقيقي، كما قلت، نفي وجود الفلسطينيين، وتعزيز الاستيطان، فهناك مليون مستوطن في الضفة الغربية، وهو عنده أوراق يلعب عليها وأهم ورقة لديه ورقة الانقسام، من هنا الفلسطينيون مدعوون، والعرب مدعوون والمصريون والسعوديون والأردنيون والقطريون والإماراتيون والكويتيون والجزائريون وكل الدول العربية، أن يهبوا لنصرة الشعب الفلسطيني ومواجهة مخطط نتنياهو، وهم مشكورون فهم يعملون في المحافل الدولية وغيرها، ولكن يجب أن يعتبروا أن إنهاء الانقسام وبناء الوحدة التي يكون فيها الوطن الفلسطيني وطنا واحدا لكل الفلسطينيين، والشعب شعبا واحدا، والقضية قضية سياسية، والقيادة قيادة واحدة.
من هنا واضح أننا وحدنا لا نستطيع، لأن إنهاء الانقسام لا يعتمد على حسن النوايا ولا على النصوص، هناك عوامل أخرى، هل نحن نتحدث عن القضية نفسها والمشكلة نفسها؟ هل كلانا قادر على تجاوز الترسبات السياسية، الأيديولوجية، الاجتماعية الموجودة؟ هل كلانا مستعد أن يتعاون، منطقيا نحن كقوتين أساسيتين، لضبط أي إيقاع داخلي وتحقيق الالتزام الداخلي بالرؤى الاستراتيجية التي يمكن أن نتوافق عليها، ولكن العنصر الأهم، هل نحن قادرون على أن نواجه مصالح سياسية، أمنية، اقتصادية لأطراف إقليمية، وهي إسرائيل، ومن مصالحها تكريس هذا الانقسام؟
الكل يتحدث عن مخطوفين إسرائيليين، ونحن لدينا آلاف الفلسطينيين المخطوفين، وأنا أقول لك حل الصراع له علاقة بالحل السياسي وإقامة الدولة، ولكن هناك ثلاث قضايا إذا لم تحل فإن الجرح سيبقى مفتوحا والحرب لن تنتهي: موضوع السيادة الكاملة على أراضي الدولة الفلسطينية. وموضوع اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية ووفق المبادرة العربية. والموضوع الآخر إنهاء حالات الاعتقال وتحرير الأسرى. واليوم هناك فرصة أمام العالم بدل أن يبكي على المخطوفين الإسرائيليين، فلينظروا إلى الأسرى الفلسطينيين، هناك أسرى معتقلون منذ 1985، ليس أقل من 15 ألف مخطوف، نحو 5 آلاف قبل، و10 آلاف بعد 7 أكتوبر، 3 آلاف من غزة، و7 آلاف من الضفة.
* ذكرتَ حسن النوايا، وحسن النوايا ليس كافيا، كما تقول، لإقامة الدولة الفلسطينية…
– لا أنا قلت لك حسن النوايا في العلاقة الثنائية لإنهاء الانقسام.
* نعم، لكن سؤالي هو عن حسن النوايا من المجتمع الدولي، يعني هناك مبادرات أو تصريحات أميركية بريطانية يصفها بعض الفلسطينيين في إطار حسن النوايا، يعني المثال الأخير وهو التصريحات الأميركية لإنشاء ميناء في غزة، هل تعتقد أن هذه التصريحات أو هذا التحرك في إطار حسن النوايا أو في إطار مساعدة الفلسطينيين، أم إنه لدوافع سياسية انتخابية؟
– أولا لو لم يكن هناك صمود وطني فلسطيني، ولو لم يكن هناك حتى اليوم سبعة ملايين فلسطيني موجودون في فلسطين التاريخية، و360 ألف صخرة فلسطينية ذكورا وإناثا موجودون في القدس، كنا سنصبح كلواء الإسكندرونة، أليس صحيحا؟ إذن قيمة هذه القضية أولا عنصر القوة، هذا الوجود، وهو وجود حيوي، وجود فاعل، مقاوم، رافض للصَّهر والذوبان والاستسلام، وجود ما زال يشعر ويعتز بكبريائه الوطني الفلسطيني بعمقه وبعده العربي والإسلامي والمسيحي. وعنصر القوة الثاني هو الموقف العربي الرافض لكل مظاهر الضغط على دمج إسرائيل في المنطقة، بمعزل عن حل القضية الفلسطينية وإقامة الدولة، هذه عناصر القوة التي جعلت الأميركيين والإنكليز والأوروبيين و.. و.. إلى آخره يذهبون إلى إجراء مراجعة، يعني لو لم يكن هناك فلسطينيون، لا سمح الله، ولو أن العامل العربي استسلم، فسنفقد كل عناصر القوة، كل الأوراق.
الكل يتحدث عن مخطوفين إسرائيليين، ونحن لدينا آلاف الفلسطينيين المخطوفين. هناك أسرى معتقلون منذ 1985
نحن صراعنا يتحرك في ثلاثة فضاءات: الفضاء الوطني، والفضاء الإقليمي، والفضاء الدولي.
الفضاء الوطني، هذا الصمود المقاوم والبقاء المقاوم في كل الأراضي الفلسطينية هو عنصر القوة الأول، وأيضا هذا الموقف العربي الشجاع والجريء والرافض، وبعض الدول العربية دفعت ثمن إسنادها وتأييدها وموقفها وسياستها تجاه الصراع وتجاه القضية الفلسطينية، كل هذا فرض تحولا. الآن موضوع الميناء وكان الأجدر ببايدن أن يُلزم الإسرائيليين بتوفير كل عناصر المساعدة للفلسطينيين في قطاع غزة بعيدا عن الابتزاز والتجويع والقتل إلى آخره.
طبعا هناك قوة ليبرالية ضاغطة سواء في الحزب الديمقراطي أو في الرأي العام الأميركي ترفض الدعم والإسناد اللامحدود، واليوم تحدث رئيس الأغلبية في مجلس الشيوخ بشكل واضح أن نتنياهو يشكل خطرا على إسرائيل في سياسته وفي تنكره وإلى آخره. فمن هنا موضوع الميناء لن يحل المشكلة إن لم يكن جزءا من سياق في إطار وحدة كل الأراضي الفلسطينية، وهذا يتم بالتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومع الفلسطينيين، وأيضا مع دول الجوار وعلى رأسهم مصر في ما يخص غزة، ومع الأردن في ما يخص الضفة الغربية. إذا كان هناك صدق وكانت هناك رؤية استراتيجية فعلا بمفهوم حل الصراع، كان يجب أن يتم هذا وفق ثلاثة شروط: الشرط الأول له علاقة بوجود برنامج لإسناد ولتوفير و.. و.. إلى آخره للفلسطينيين، وهذا ليس ورقة توت.
والموضوع الثاني أن يتم بالتنسيق مع العنوان الرسمي للشعب الفلسطيني، الذي هو منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتنسيق مع الطرف المصري والأردني، لأن مصر والأردن ترسلان طائرات وتضخان مساعدات من الجو لأن الإسرائيليين يمنعون حركة الإمداد عبر المواصلات البرية. فهذا هو رأينا في موضوع الميناء، طبعا نحن بحاجة إلى ميناء، وأكيد يجب أن يكون جزءا من مشروعنا وجود ميناء ومطار، كان هناك مطار هم دمروه، والجسر استولوا عليه وطردوا الفلسطينيين، ونحن كنا موجودين عليه ولدينا شرطة وإلى آخره، فما تقوم به الإدارة الأميركية أكيد له علاقة بالانتخابات، وله علاقة بالتفاعلات وبالنهضة والصحوة في وعي المجتمع الأميركي الرافض، فما فعلته إسرائيل وما تفعله لم يحصل في التاريخ، ولم يحصل في أوروبا.
وهل صحيح أن بعض التجاوزات في 7 أكتوبر تبرر هذه المجازر، والتي هي موجودة أصلا في سياسة إسرائيل على مدار سنوات الاحتلال ومنذ إقامة إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني، دمروا 500 مدينة وقرية وتجمع سكاني، وهجّروا نحو مليون فلسطيني سنة 1948، بسبب “الهولوكوست”؟ نحن لم نتسبب في “الهولوكوست”، ولا نتحمل مسؤوليتها. ومن كان سبب “الهولوكوست” لا يصح أن يقبل من ضحايا “الهولوكوست” أن يفعلوا ما يفعلونه بحق الفلسطينيين، ما الفرق؟
لا يصح أن يُقبل من ضحايا “الهولوكوست” بأن يفعلوا ما يفعلونه بحق الفلسطينيين… ما الفرق؟
* من كلامي مع فلسطينيين هنا في رام الله وفي القدس، هم يقولون إن “حماس” لم تحرر شبرا واحدا من الدولة الفلسطينية المرتجاة على حدود 1967، بل إنهم تكبدوا أو دفعوا ثمنا باهظا لقرارها في السابع من أكتوبر، فما رؤيتك في هذه الآراء؟
– أولا، أنا أحب أن يكون كل الشعب الفلسطيني “فتح”، ولكن هناك جزء من الشعب الفلسطيني يؤمن بـ”حماس”، “حماس” بالنسبة لي جزء من النسيج السياسي النضالي الاجتماعي الوطني الفلسطيني، الآن “حماس” عندها سياساتها، وهي قامت بـ7 أكتوبر أكيد من دون استشارتنا، ولا أعلم إن تشاورت مع غيرنا. هذا الموضوع يجب أن يُترك لثلاثة أطراف: الله سبحانه وتعالى، وهو من يحاسب الناس على الخير والشر. ثانيا هذا الشعب العظيم القادر على المحاسبة لـ”فتح” و”حماس” وكل الفلسطينيين، وهذا لن يكون إلا من خلال صندوق الاقتراع، من هنا إصراري وقناعتي أن صندوق الاقتراع هو الممر للناس لمحاكمتنا، ونحن نترك للتاريخ أن يحكم ما هو صحيح أو خاطئ، ونترك للشعب الفلسطيني أن يقرر من خلال صندوق الاقتراع، وكلنا مؤمنون نترك لله سبحانه وتعالى أن يحاسبنا، أما استباق الأمور فمن شأنه أن يكرّس الانقسام وأن يسمم الأجواء، فلماذا نعمل على النتائج؟ وأنا شخصيا مؤمن بأن من يتحمل مسؤولية 7 أكتوبر هم الإسرائيليون وسياساتهم، فأنا هذه قناعتي وأعتقد أن الغالبية العظمى في حركة “فتح” هذا هو تفكيرها.
وصندوق الاقتراع وشعبنا شعب واعي، فلماذا ندخل في صراعات داخلية وفي حرب إعلامية داخلية، بالتبرئة أو الإدانة في ظل أن المجرم واحد.
* ماذا لو أقيمت انتخابات ديمقراطية في الضفة الغربية وفي قطاع غزة واختار الفلسطينيون “حماس”؟
– أولا أنا إنسان أؤمن بالديمقراطية وأؤمن بصندوق الاقتراع، نحن نمارس عملية ديمقراطية وأكيد نحترم نتائجها، ولا يصح أن لا نحترم نتائجها، إلا إذا كنا نخدع أنفسنا، ومن هنا أنا كفلسطيني وفتحاوي ومناضل دفعت ثمنا كبيرا، 17 سنة من حياتي أنا وإخوتي وأختي قضينا 56 سنة في سجون الاحتلال، ونسفوا بيتي في القرن الماضي، من هنا إذا لم أحترم نضالات الآخرين ولم أحترم صمود شعبي وأعتبر نفسي قدر الشعب الفلسطيني، يعني أنا مخطئ، أنا فتحاوي وأعتز بفتحاويتي، ولكن هذا المواطن، الذي هو أحد أنبل الأصول الوطنية عندنا نحن كفلسطينيين، يجب أن أحترم إرادته، فإذا كان إخواننا في “حماس” أو غير “حماس” استطاعوا أن يقنعوا هذا المواطن، فبالتأكيد بالنسبة لي أنا إنسان ديمقراطي أشارك وأحترم النتائج ويجب أن نقبل بمبدأ التعددية ومبدأ الشراكة ومبدأ الانتخابات واحترام رأي هذا المواطن بما يعنيه ويمثله من كل مظاهر القوة عبر التاريخ لصالح تثبيت قضيتنا كقضية سياسية.
* ما رؤيتك لمستقبل السلطة الفلسطينية بعد انتهاء حرب غزة؟
– أتمنى أن يكون عندنا كلنا وقفة، ونحن في “فتح” وعلى رأسنا الأخ أبو مازن، الذي أعتقد أن الخلاف معه مشروع، ولكن الخلاف على شرعيته خطأ، وأعتقد أن الأخ أبو مازن قادر ويجب أن يتجه إلى توحيد الحالة الوطنية الفلسطينية، وإلى تعزيز كل أسباب القوة في إطار وحدة وطنية فلسطينية، المنظمة مظلتها، وأعتقد أن هذه مسؤوليته، وبرأيي جزء من التكتيكات التي تحصل يمكن أن يكون لها مردودات سلبية، ولكن مع كل ذلك أنا مؤمن أن المس بشرعية النظام السياسي بمنطق التغيير خارج صندوق الاقتراع أعتبره خطأ، الخلاف والنقد وغيره حق مشروع لكل الفلسطينيين بلا استثناء، والموضوع الآخر المتعلق بالمنظمة وشرعية المنظمة، هي مسائل لا يصح أن نلعب بها.
ولكن هناك مشكلة وهناك احتقان في الشارع الفلسطيني، للأسف، ضد الكل، وأعتقد من يريد أن ينجح في المستقبل هو من يحقق لهذا المواطن البسيط ثلاثة قضايا: يعطيه أملا في المستقبل، يوفر له كل عناصر الأمن الشخصي سواء بالمعنى الحياتي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الأكاديمي أو غيره، فيشعر بأمن في بلده في قريته في مخيمه. والموضوع الآخر الذي يحقق لقمة الخبز أو فرصة العمل. هذه ستكون معركتنا في المستقبل، والشعب الفلسطيني لن يرحم من يخطئ في هذه المرحلة، ولكن، كما قلت، لا بد من خطوات لها علاقة بإنهاء الانقسام، لها علاقة بوحدة الأراضي الفلسطينية ووحدة القيادة الفلسطينية ووحدة القرار الفلسطيني المنسجم مع قرارات الأمم المتحدة ومع التوجهات الإقليمية بما فيها المبادرة العربية، بما في ذلك أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين، فأنا كمقاتل وكفلسطيني وكإنسان ضحيت وأعتز بتضحيتي، ولكن أعتز بشعبي أولا، وبحركتي، حركة “فتح”، بأهدافها، بمبادئها، بمنطلقاتها وإرثها العظيم الذي أصبح اليوم عقيدة وطنية عند كل الفلسطينيين.
* هل حان وقت توفير حماية دولية للفلسطينيين مع وجود احتلال إسرائيلي يطبق على أنفاس الفلسطينيين لأكثر من 50 عاما؟
– الحماية الدولية ضرورة ومصلحة للفلسطينيين وللمؤمنين بوقف نزيف المعاناة والجرائم الإسرائيلية التي تهدد، أولا قيام الدولة الفلسطينية، وثانيا الاستقرار الإقليمي، وثالثا السلم العالمي. ونحن نأمل أن يكون ضمن التوجهات المستقبلية جهد لتوفير شبكة أمان للفلسطينيين، أولها الحماية الدولية من هذا الاحتلال وهذا العدوان. ما يحصل في القدس وما يحصل في الضفة الغربية جرائم حرب وتطهير عرقي وأسوأ مظاهر التمييز العنصري والأبارتهايد. ما يحدث هنا منذ 1967، أنا أقول لك إن ما كان يحدث في جنوب أفريقيا هو “حضاني” مقارنة مع سلوك هذا الاحتلال الذي هو آخر صيحة في الجرائم.