الهدنة والمسؤولية الوطنية الجماعية.. – سما الإخبارية
في ذكرى الهدنة الأولى والوحيدة في الحرب ولاحقاً للنقطة الثالثة التي أثرتها في مقالتي الأسبوع الماضي، فإن المسؤولية عن إنجاز الهدنة ووقف إطلاق النار لا يجب ان تكون بيد فصيل بعينه، بل هي مسؤولية وطنية جماعية، ولا يمكن لنا بعد أكثر من 400 يوم من الحرب أن نتعامل مع ما يجري في غزة على أنه من اختصاص تنظيم بعينه. لأن الحقيقة أن الذي قُتل ويُشرد ويعيش في الخيام ليس شعب هذا التنظيم ولا ذاك بل هو شعبنا الفلسطيني، فهو ليس شعب حماس ولا شعب فتح ولا شعب الجهاد ولا شعب الحزب ولا الديمقراطية ولا ولا ولا، بل هو الشعب الفلسطيني الذي أفرز كل هؤلاء، والذي نذر كل هؤلاء (على الأقل علينا أن نصدق ذلك) تنظيماتهم من أجله. وعليه فإن الناس في غزة لا يجب أن يتركوا بيد تنظيم بعينه، وفي هذه الحال حماس، من أجل تقرير مصيره. لسنا بصدد تقييم ما جرى خلال السنة ونيف الماضية، لأن ثمة نقاشاً وطنياً جدياً وحقيقياً لا بد من فتحه للوقوف على ما جرى وعلى الطريقة التي تمت فيها إدارة المعركة، ولكن هذا النقاش لا يمكن أن يتم بشكل معمق إلا بعد انتهاء الحرب، ولكن إلى حين ذلك لا يمكن أن يتم ترك شعبنا في غزة بيد أي تنظيم حتى يواصل ما يظن أنه الصواب، وهذا الصواب ليس إلا قناعاته الفصائلية دون استشارة الكل الوطني.
إذا كانت حماس قد قررت الحرب، فليس من حقها أن تواصل احتكار قرار التهدئة، لأنها ليست من يعاني، رغم ما قدمته من تضحيات على صعيد قادتها أو مقاتليها، لكن مَن يعاني هم أهلنا، الناس البسطاء الذي يعيشون في الخيام منذ أكثر من سنة. وإذا كان ثمةَ من لا يرى الواقع علينا أن نفتح عينيه بالقوة حتى يراه، فالواقع يقول إنه لم يعد هناك غزة. هناك شمال غزة وهناك جنوب غزة، وهناك شمال شمال غزة وهناك مدينة غزة، على أحدهم أن ينتبه أن شمال شمال غزة أي مخيم جباليا وبيت حانون وبين لاهيا وجباليا والنزلة صار شبه فارغ حيث تم ترحيل كل ساكنيه، وهناك معابر يتم نصبها لفصل الشمال عن الجنوب ولفصل جباليا عن غزة، وهناك أحزمة أمنية، هناك رغيف خبز يموت الناس من أجله، وصار كيس الطحين غاية، ورُضع لا يجدون رضعة الحليب، وهناك مكان تم تشويهه وجغرافيا تم استلابها. على من يقرر أن ينتبه للواقع ولا يغره مقاتلو «الكيبورد» ولا «السوشالجية» ولا متنطحو الشعر والعبارات الكبيرة خارج غزة ليسمع لصوت الناس في غزة، عليه أن يرى شعبه ويفهم ماذا يريد شعبه. إن أكبر انتصار هو أن ننتصر لبقاء شعبنا.
وعلى من يصر على وقف الحرب قبل أي صفقة وخروج الجيش من غزة، وهذا يجب أن يكون جوهر أي اتفاق، أن يتذكر أن هذا الاحتلال وهذا الجيش دخل بعد الحرب وهو نتيجة المعركة الجارية. ثمة تفاصيل مؤلمة بشكل كبير لكن يجب قولها. على من يفاوض عن حياة أكثر من مليوني شخص في غزة أن يعرف ماذا يجري في غزة، فالقصة ليست نشوة وشعوراً وزهو تفاخر، هناك شعب يمسك بكل نواجذه بتلابيب الحياة، ويعد حياته يوماً بعد آخر ويصر على الصمود لكنه لا يجد من يشجعه. أتمنى أن يخرج علينا شخص ويقول لنا ماذا يريد بعد 14 شهراً، وينتبه أن كل ما يريده كان موجوداً قبل ذلك، وأن عليه أن يجيبنا لماذا نتراجع كثيراً إلى هذا.
ولكن أيضاً هذا لا يعفي فتح ولا الكل الوطني من المسؤولية، فنحن لا نتحدث عن شعب آخر من الهونولولو بل عن شعبنا، عن غزة التي حملت الثورة وأطلقت فتح واحتضنت جميع الفصائل الوطنية. غزة ياسر عرفات وصلاح خلف وخليل الوزير وأبو يوسف النجار وكمال عدوان وممدوح صيدم ومئات القادة. وعليه فإننا بحاجة لخطاب وطني مختلف، سواء على صعيد فهمنا ووعينا أو على صعيد مخاطبة حماس والنقاش معها. الأمر لا يجب أن يُترك بيد حماس وحدها، وأيضاً على الفصائل الأخرى خاصة الجهاد والشعبية أن تنتبها لمواقفهما بهذا الخصوص. هذا مصير شعب بأكمله، ويجب أن يكون الموقف والقرار بيد كل تنظيمات الشعب الفلسطيني، حتى لو كان ما يريده الاحتلال بيد بعض التنظيمات، أقصد الأسرى، فإن القرار يجب أن يكون بيد الجميع.
إن القول أن لا دولة بدون غزة ولا دولة في غزة يجب أن يعني أن مصير غزة هو مسؤولية الكل الوطني، ولا يمكن تحت وقع سياط الانقسام الذي نجم عن انقلاب حماس في حزيران 2007 وما تلا ذلك من أحداث، أن نواصل التفكير بنفس المنطق حتى بعد 17 سنة من الانقسام و 14 شهراً من حرب الإبادة. نحن بحاجة للخروج من شرنقة التفكير هذه والبحث في فضاء أوسع، وهذا يجب أن ينعكس في خطابنا الإعلامي وتصريحاتنا وحتى ربما في الوجوه التي يصدر عنها هذا الخطاب، من أجل إعطاء أمل للجيل الذي يُذبح ويُنكل به ويتعرض لأبشع وأكثر إبادة موثقة في التاريخ. غزة ليست عبئاً، وهذا يجب أن لا يكون على صعيد العبارات والشعارات الوطنية، ولا يمكن أن يستقيم الحال الوطني ما لم تتعافَ غزة وتعود لها مكانتها في صناعة القرار الوطني الجماعي، وأيضاً هذا ليس شعاراً لأنه في السياق التأسيس للحركة الوطنية كان دائماً صحيحاً، كما في استمرارية الكفاح التحرري ظل صحيحاً، إلى جانب أن أي نظرة للمستقبل لا يمكن إلا أن تمر من عين التلسكوب الموضوع على نافذة من نوافذ غزة، أو تكون تلك العين ترصد عالم غزة الصغير شديد التفاعل والتأثير.
الإنسان ليس مذنباً تماماً، فهو لم يبدأ التاريخ، وهو ليس بريئاً تماماً لأنه يكمله، والعبارة لألبرت كامو، وعليه فلسنا أبرياء من استمرار الحرب.