اخبار

تهافت العقول ..د. إياد أبو الهنود

في قلب المأساة المتواصلة التي تطحن الشعب الفلسطيني يومًا بعد يوم، نعيش حرب إبادة جماعية واضحة المعالم، لم تبدأ فجأة، بل جاءت نتيجة مشروع مخطط له منذ زمن، وُضع في العتمة، وشارك فيه الاحتلال مع حلفائه، وساعدته قوى إقليمية ودولية بالصمت أو الدعم، لكن الأخطر أن هذا المشروع وجد من يهيّئ له الظروف من داخلنا، وظهرت الذرائع التي جعلت من الجريمة مشهدًا مألوفًا، بل مبررًا لدى البعض، وكأن الدم الفلسطيني مصير لا يجوز الاعتراض عليه.
نعيش اليوم بين مقتلتين: واحدة تُرتكب بالنار والسلاح، وأخرى تُنفذ بالكلمات والتبريرات، يُقال لنا إن ما يحدث “ابتلاء”، وتُغلف المأساة بعبارات عن “الجهاد” و”الصبر” و”التضحية”، يُستحضر الخطاب الديني والنصوص القرآنية، ليس لمقاومة القتل، بل لتبريره، تُقتطع الآيات من سياقها، ويُعاد استخدامها بطريقة تجعل الألم قدرًا يجب السكوت عليه، لا جريمة يجب مواجهتها.
لكن بين “البلاء” و”الابتلاء” فرق لا يجوز طمسه، “فالابتلاء” اختبار إلهي يقع لحكمة، وغالبًا ما يُصيب عباد الله الصالحين، ليطهّرهم أو يرفع منازلهم، وهو ما ورد في سِيَر الأنبياء والرسل، أما “البلاء” في كثير من الأحيان، فهو ثمرة تقصير الإنسان، وسوء اختياره، وتخليه عن العقل الذي وهبه الله له ليبصر به الطريق ويمنع به التهلكة، حين يغيب العقل، وتُعطَّل المسؤولية، نتحول إلى ضحية لبلاء من صنع أيدينا، وإن خلطنا بين المفهومين، فإننا نغلق باب المراجعة والمحاسبة، ونُحوّل المأساة إلى قدر أعمى لا يجوز مساءلته.
أصبح كثيرون يخاطبون الناس بلغة “البلاء” و”الاختبار”، بينما يُسحق الإنسان وتُطلب منه “التضحية” بلا سؤال، والموت بصمت دون حتى أن يُبدي امتعاضًا، يُشوَّه النص، وتُستخدم الأحاديث النبوية خارج سياقها، ويُغفل النص القرآني الذي يرفع مقام الإنسان: “ولقد كرمنا بني آدم”، وكأن الحديث عن كرامة الإنسان بات ترفًا لا يليق بواقعنا، وكأن الفلسطيني مطلوب منه أن يتحول إلى رقم بلا وجه ولا صوت، لا حق له في الاعتراض، ولا حتى في الحزن.
وهكذا، “تتهافت العقول”، تختلف الآراء، وتتعدد المقاربات، بين من يرفض الواقع لكنه لا يقدم بديلًا، ومن يؤيد ويهادن، ومن يستخدم الخطاب الديني لتبرير مواقفه، ومن يضيع في تنظير بعيد عن جوهر القضية، هذا التهافت يذكرنا بما حدث في عصور قديمة، حين دخل المتكلمون والفلاسفة في جدالات طويلة، بين التمسك الحرفي بالنص، وبين إعمال العقل، بينما كانت الناس تعاني في صمت، والفكر يدور في حلقة مفرغة.
في وسط هذا التنازع، غاب الفعل، وتقدمت الأقوال، صارت الأفكار مجرد جدل لغوي بلا فائدة، وأصبحنا نكرر مقولات لم نفهمها، ونردد أفكارًا لم نعد نمتلكها، لم نُخلص للنص، ولم نُعمل العقل، والغريب أن الغرب الذي أخذ منا فضيلة التفكير، تقدم، بينما نحن بقينا نحرس النصوص ونحارب السؤال ونتهم من يفكر، حتى تراجعنا، لم نتراجع لأننا نملك النص، بل لأننا غيّبنا العقل الذي يفهمه.
هذا التهافت لم يكن طارئًا، بل صار جزءًا من ثقافتنا، نُورّثه من جيل إلى جيل، لا ليقودنا إلى النور، بل ليُبقينا في التيه، وإذا لم نُدرك ما نحن فيه، ولم نواجه هذا التهافت بجرأة وصدق، فإننا نسير نحو الهاوية بأعين مفتوحة.
لكن التاريخ لا يخلو من دروس، فيتنام لم تنتصر فقط بقوة سلاحها، بل بوحدة وعيها، ورفضها التبعية والانقسام، وجنوب أفريقيا أنهت الفصل العنصري ليس بالقوة وحدها، بل بحركة وعي أخلاقي قادها مانديلا، ورفضت الانتقام أو إنتاج نسخة جديدة من الظلم، الجزائر كذلك جمعت بين البندقية والرؤية الوطنية الواضحة.
كل هذه التجارب تقول لنا: النجاة لا تأتي من “الصبر” وحده، ولا من تكرار الكلام عن “البلاء”، بل من تجديد عقولنا، وتوضيح رؤيتنا، وصياغة خطاب يُحافظ على كرامة الإنسان، علينا أن نحرّر عقولنا من وهم التبرير، ونُعيد الاعتبار للحياة والكرامة، ونتوقف عن تحويل الكارثة إلى حالة دائمة.
أخطر ما يمكن أن يحدث لشعبٍ في لحظة مجزرة، أن يُسلّم عقله، ويكتفي بتكرار العبارات، بدلًا من فهم الواقع وتغييره، ما نحتاجه اليوم ليس تمجيد الألم، بل تحويله إلى وعي، وبناء مشروع وطني يقوم على الكرامة والوضوح.
ففي زمن يُذبح فيه الإنسان، لا خلاص إلا بنقد هذا التهافت، وفتح نوافذ العقل، لعلها تُضيء ما تبقى من ظلال في زمن انطفأت فيه البصائر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى