اخبار

ثقب في الجدار.. د. إياد أبو الهنود

شهدت العديد من الشعوب عبر التاريخ تجارب مريرة من الانقسام المجتمعي والصراعات الداخلية التي بلغت حدّ الاقتتال، وكانت النتيجة إزهاق الأرواح، ودمار البنى، وانهيار النسيج الوطني؛ وتحوّل الانقسام إلى جدار خرساني عازل يحول دون تحقيق الوحدة والتماسك. ومع ذلك، أثبتت بعض الشعوب أن هذا الجدار ليس عصيًا على الاختراق؛ فقد تهاوت أركانه، واستعاد المجتمع توازنه.

وانطلاقًا من هذه التجارب، يبرز التساؤل الجوهري: هل يمكن للفلسطينيين أن ينجحوا في خرق جدار انقسامهم؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك وسط التحديات المتراكمة؟

منذ ما يقارب عقدين، يعيش الفلسطينيون حالة من الانقسام السياسي، قسم الوطن جغرافيًا، وتأثر اجتماعيًا، وأصبح المشروع الوطني مهددًا.

وبات الاحتلال الإسرائيلي هو اللاعب الرئيسي في إدارة الصراع، مستغلًا هذا الانقسام لينفّذ مشروعه القائم على تصفية القضية الفلسطينية، وبلغ ذلك ذروته في الحرب الجارية على قطاع غزة، حيث ارتكب الاحتلال مجازر ترقى إلى الإبادة الجماعية، وأوقع عشرات الآلاف من الشهداء، ودمّر البنية التحتية، وشرّد الملايين، وخلق كارثة إنسانية غير مسبوقة.

وفي ظل هذه الكارثة، واصلت بعض القوى والفصائل السعي إلى خلاص فردي، تحرّكه اعتبارات حزبية، بدلًا من تحويل هذه الحرب إلى لحظة وعي وطني تدفع نحو تصليب الجبهة الداخلية، وتعزيز الوحدة الوطنية، وتوحيد القرار الفلسطيني في قضايا السلم والحرب، بوصفه حقًا وواجبًا جماعيًا لا يقبل الانفراد.

إن قدرة الشعوب على مقاومة الاحتلال تنبع من وحدة صفها الداخلي؛ فعندما تضعف هذه الوحدة، ينهار البناء الوطني، ويزداد المحتل قوة. لقد رأينا كيف أن تهاوي الجدار الوطني الداخلي أفسح المجال أمام الاحتلال لبناء جدار خرساني من الانقسام، أطاح بمقومات الدولة، وسعى من خلاله إلى زعزعة ثقة الناس بمؤسساتهم، وأعاد تشكيل المشهد السياسي لصالحه.

لقد فشلت محاولات المصالحة المتكررة لأنها ظلت حبيسة الغرف المغلقة، بينما غاب الشعب عن المشهد، وبقي متفرجًا على انقسام كأنه لا يمثله، ولا يرقى بتضحياته، إلا من بعض المبادرات الشبابية التي ما لبثت أن تلاشت.

لكن الواقع لا يتغير بالأمنيات، بل يحتاج إلى إرادة مجتمعية تؤمن بأن التغيير لا يُنتظر من الفصائل، بل يُصنع من الناس أنفسهم. ولهذا، فإن استعادة المجتمع الفلسطيني لعافيته تبدأ من القاعدة الشعبية.

نحن بحاجة إلى تحرك يرفض الوصاية الفصائلية التي تسعى بعض القوى إلى فرضها، من خلال تغييب الأطر الديمقراطية، أو محاولة بناء أجسام بديلة أو موازية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ ويعيد الاعتبار لقيم الشراكة، والكرامة، والعدالة الاجتماعية. تحرك يستند إلى وحدانية التمثيل السياسي الذي تجسّده منظمة التحرير، باعتبارها الإطار الشرعي والجامع الذي شُيّد بتضحيات الفلسطينيين ودماء شهدائهم، والممثل الشرعي المعترف به دوليًا؛ ويعتمد أدوات تعزّز السلم الأهلي، لا تلك التي تغذّي الانقسام، وقد أثبتت مثل هذه الأدوات نجاعتها في تجارب شعوب أخرى.

ومن الأمثلة الملهمة ما حدث في ليبيريا، حيث قادت النساء حركة سلمية جمعت بين المظاهرات والاعتصامات والإضراب عن المعاشرة الزوجية، للضغط على أمراء الحرب؛ وتمكنت هذه الحركة، بقيادة الناشطة ليما غبوي، من فرض اتفاق سلام، وإنهاء الحرب الأهلية، وإيصال أول امرأة إلى رئاسة البلاد. لم يحتجن إلى السلاح أو الانتماء الحزبي، بل امتلكن وعيًا جماعيًا وإرادة لا تلين.

والحالة الفلسطينية قادرة على إنتاج نماذجها الخاصة، ليس من خلال تقليد الآخرين، بل عبر تفعيل القوى المجتمعية الصامتة: المعلمين، الأطباء، الطلبة، المثقفين، النساء، العمال، وأصحاب المبادرات الشعبية. هؤلاء، إذا آمنوا أن المشروع الوطني لا يُختزل في الانتماء الفصائلي، ولا في الولاء لهذا الفصيل أو ذاك، وأن العدالة لا تُبنى على أنقاض العنف، يستطيعون قلب المعادلة.

ويكون ذلك بتطوير أدوات مجتمعية جديدة، تستند إلى الوعي بالمسؤولية الفردية، وفلسفة التراكم، وعدم التهوين من أي فعل اجتماعي، بدءًا من الحوارات الأهلية والحملات الشعبية العابرة للفصائل، وصولًا إلى بناء شبكات تضامن، وتربية سياسية تقوم على التسامح والمشاركة، لا على الاصطفاف والانقسام.

خلاصة القول: لا جدوى من انتظار المصالحة من أعلى، فقد أثبتت التجربة أن بعض الفصائل لا يرغب أصلًا في إنهاء الانقسام. أما المجتمع، فبإمكانه إذا نهض بقواه الذاتية، أن يثقب الجدار، ويعيد ترميم البيت الفلسطيني من الداخل، استنادًا إلى فلسفة اللاعنف، وروح الشراكة، وإرادة التحرر من الارتهان الفصائلي لأجندات خارجية.

لقد آن الأوان لتحويل الغضب الشعبي إلى قوة فاعلة، تعيد صياغة المشروع الوطني على أساس حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وحقه غير القابل للتصرف في إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على كامل ترابه الوطني، وعاصمتها القدس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى