اخبار

جبهات الإسناد السياسي.. – سما الإخبارية

خلال الحرب الباردة، أي تلك الفترة التي امتدت أكثر من أربعة عقود تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي منذ العام 1945 حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، شهد العالم ظاهرة حركات التحرر التي اندلعت فيما سمي بالعالم الثالث، أو العالم النامي، والتي نشأت لتحرير العديد من الدول التي كانت مستعمرة من قبل دول الاستعمار الغربي، وذلك في قارتي أفريقيا وآسيا بشكل أساسي، وكانت في معظمها ضد الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وقد نجم عن حروب حركات التحرر أن استقلت دول عديدة، كان من أهمها الصين، الهند، فيتنام والجزائر، كما أن العالم شهد صراعاً محموماً بين قطبي الحرب الباردة، ظهر في أكثر صوره سفوراً في شبه الجزيرة الكورية وألمانيا اللتين انقسمتا، وحيث كانت دول الاستعمار الغربي مكوناً أساسياً من معسكر الغرب الرأسمالي، فإن حركات التحرر وجدت في المعسكر الاشتراكي سنداً وداعماً ومؤيداً لها في حربها العادلة ضد الاحتلال الخارجي، بما ساهم بشكل حاسم في انتصارها، رغم الفارق الهائل بين قدراتها العسكرية وبين عدوها.

يمكننا القول اليوم بأنه لولا ظهور المعسكر الشرقي أو الاشتراكي، لكان الحلفاء أي بريطانيا وفرنسا وأميركا قاموا بإعادة توزيع المستعمرات بينهم، كما فعلوا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أقدمت كل من بريطانيا وفرنسا على تقاسم «تركة الرجل المريض» أي تركيا، وفق اتفاقية سايكس_بيكو، حيث خضعت كل البلاد العربية لاستعمار دولتي الغرب، الى أن تحررت بمعظمها بعد الحرب الثانية، وبسبب مباشر أو غير مباشر من وجود الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، خلال عقدي خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
سوء حظ فلسطين أنها واجهت أولاً استعماراً من نوع خاص، استعماراً إحلالياً، نفذ فيه الغرب البريطاني فكرة إقامة «دولة» هي بحد ذاتها قاعدة استعمارية، تشبه ما فعلته فرنسا في الجزائر من استيطان، ولكن بمستوى أعلى، من خلال دمج المشكلة اليهودية، وهي بالأساس مشكلة واجهت الغرب ولا علاقة لها لا بالشرق ولا بالعرب ولا بالفلسطينيين بالطبع، باستعمار فلسطين، ثم ثانياً أن فلسطين بقيت الدولة الوحيدة المحتلة الى ما بعد الحرب الباردة، ورغم أن المعسكرين اتفقا على حل التقسيم، إلا أن النتيجة كانت أن أقيمت دولة إسرائيل دون أن تقام دولة فلسطين، وكان ذلك لعدة أسباب، المهم أن إقامة دولة فلسطين لاحقاً بات يعد انتصاراً للمعسكر الشرقي وهزيمة للغربي.
لكن بعد الحرب الباردة، اختلطت الأمور، فيما لم تعد دولة إسرائيل مجرد «قاعدة استعمارية» للغرب، أو حتى حلاً للمشكلة الغربية على حساب فلسطين، بل باتت تتطلع بشكل ذاتي الى التوسع، بعد تكرس اليمين اللاهوتي في المجتمع والحكم، فيما بات جزء من الغرب يؤيد إقامة الدولة الفلسطينية، الى جوار دولة إسرائيل العلمانية التي هي على شاكلة الغرب، والتي أقيمت على الساحل وفي الجليل والنقب، والغريب هنا أنه مع أن الغرب أعاد ترتيب العالم في إطار النظام العالمي الجديد سريعاً، حين سارع لتفكيك الاتحادات: السوفياتي واليوغسلافي والتشيكوسلوفاكي، وأدخل النظام الغربي لكل دول شرق اوروبا، الا أن إعادة ترتيب الشرق الأوسط تأخرت نحو ثلاثة عقود، واقتصرت حتى الآن على اسقاط أنظمة كانت تعد مناهضة للغرب.
المهم، أنه ومع كل صراع منفجر على شكل حرب، وفي أي مكان، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التداخلات الإقليمية والدولية، حيث لم تعد الحروب بين الدول تقتصر في تأثيراتها على طرفيها، وفي معظمها تظهر الدول الإقليمية الأخرى وأحياناً الدول العظمى، مع هذا الطرف أو ذاك، بغض النظر عن مستوى ودرجة تلك المشاركة، التي تتباين ما بين الإمداد بالسلاح والذخائر، والدعم الاستخباراتي، الى الدعم والتأييد السياسي، وما بينهما من الدعم المالي.
ولعل أنصع النماذج التي ما زالت ماثلة أمامنا، تتمثل في حربي شرق أوروبا، بين روسيا واوكرانيا، والشرق الاوسط بين اسرائيل وفلسطين، ففي شرق أوروبا، اصطف الغرب كله، بمكونيه الرئيسيين أي اميركا وأوروبا مع أوكرانيا، وطوال ثلاث سنوات الحرب قدما لأوكرانيا معونات عسكرية ومالية وسياسية ضخمة، والتي لولاها ما كانت صمدت أوكرانيا أمام الجيش الروسي كل تلك الفترة، والدليل على ذلك أنها _ أي أوكرانيا، تقوم فقط بصد الهجوم الروسي، وهي عاجزة عن إلحاق الهزيمة به، أو وقفه، ورغم ذلك فقدت خمس أرضها، أما في الشرق الأوسط، وبعد أن ساند الغرب كله إسرائيل، أخذت معظم دول أوروبا تخرج من موقع الاصطفاف لجانب إسرائيل، فيما بقيت أميركا والى حد ما بريطانيا تمدها بالسلاح والذخائر، بل وتتدخل عسكريا في البحرين المتوسط والأحمر، كما تشاركها في الاستخبارات، وتقوم بحمايتها سياسياً، لتبقي على عجلتها الحربية مستمرة في ارتكاب حرب الإبادة الجماعية.
يمكن القول بثقة، بأنه لولا الإسناد العسكري والمالي والسياسي الأميركي، خلال الحرب المستمرة منذ عام ونصف، لانهزمت إسرائيل فيها شر هزيمة، وقد تأكد خلال هذه الحرب بأن إسرائيل وبعد ما يقارب 80 عاماً على إنشائها، ما زالت بحاجة إلى دعم متعدد الأشكال والمستويات حتى تبقى، وذلك في مواجهة بضع قوى، تتمثل في مجموعات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، مع بعض قوى المقاومة الإقليمية التي سميت بجبهات الإسناد، وظهرت في لبنان عبر حزب الله واليمن عبر الحوثي، وبدرجة أقل في العراق، مع إسناد سياسي أو حتى معنوي في أكثر حالاته من إيران.
وبالطبع ورغم أن المقاومة الفلسطينية تستمد قوتها من مشروعيتها ومن القاعدة الشعبية، إلا أن مشاركة جبهات الإسناد لها في الحرب من خلال تدخلها العسكري، وإن كان قد جاء بأقل من المشاركة الكاملة، إلا أنه كان أحد أهم  عوامل صمود المقاومة الفلسطينية لمدة عام ونصف في وجه آلة الحرب الإجرامية الإسرائيلية التي ألقت على قطاع غزة ما يعادل عدة قنابل نووية من المتفجرات.
وبالمناسبة، فإن حرب الإبادة الإسرائيلية على فلسطين بجناحيها في غزة والضفة، أظهرت وبعد عقود من انتهاء الحرب الباردة، بأن الاصطفافات لم تعد كما كان الحل أيام الحرب الباردة، أي بمنطق مع أو ضد، وكما أسلفنا قبل قليل، فإن دول أوروبا تباينت من مؤيد بشكل كامل مثل بريطانيا والى حد ما ألمانيا خاصة خلال الأشهر الأولى للحرب، في حين تعاطفت إيرلندا واسبانيا، النرويج وبلجيكا، مع فلسطين، بمعنى آخر، باتت الدول تتقاطع مع الدول الأخرى بنسب مختلفة، ولم تعد مواقف معظم الدول قاطعة، ومن ضمن ذلك كانت مواقف الدول العربية، وكما قلنا ظهرت منذ البداية جبهات إسناد عسكري مع المقاومة الفلسطينية، كذلك ظهرت جبهات إسناد إعلامي، كانت داعمة بشكل مهم، بما ساهم في تأجيج التظاهرات العالمية، وحتى في تعزيز موقف جنوب أفريقيا والدول المساندة لها في الدعوى القضائية ضد إسرائيل واتهامها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.  
وكانت هناك جبهة الإسناد التفاوضي، حيث ألقت كل من قطر ومصر بثقليهما في هذا المضمار، للحؤول دون «تفرد» مجرمي الحرب الإسرائيليين بغزة الى حد الإبادة التامة لسكانها، إن بالقتل أو التجويع والتشريد، أو التهجير.
ولعل آخر محطات ما يمكن وصفه بالإسناد السياسي، هو التصدي لخطة التهجير الترامبية، حيث تصدت مصر والأردن، وبكل ما تتمتع به مصر من ثقل عسكري وسكاني إقليمي، وكذلك ما تتمتع به قيادتها من حنكة سياسية، تمثلت في مكافحتها للمخطط الإسرائيلي بهدوء، ومعالجة التفاصيل وتوظيف الشقوق مهما كانت ضيقة، فيما تناغمت معها حماس في هذا الصدد، تلك الشقوق إن كانت داخل إسرائيل، أو بينها وبين أميركا، خاصة بعد أن هدأ الإسناد الشعبي العالمي، المتمثل بالتظاهرات، وصولاً الى الحديث عن خطة مصرية تم دعمها في اجتماع الدول الخليجية الست مع الأردن ومصر، ثم تاليا بقمة القاهرة الطارئة، بما يمكن اعتباره جبهة إسناد سياسي، إن لم تنجح في فرض الحل السياسي المتمثل بحل الدولتين على إسرائيل، فإنها نجحت حتى الآن، على الأقل في تفويت الفرصة على اليمين المتطرف الإسرائيلي في استغلال الحرب، ومقامرة بنيامين نتنياهو بكل رصيده السياسي، في حرب يحاول من خلالها أن يطوي ملف فلسطين في الحرية والاستقلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى