اخبار

جراب الحاوي.. د. إياد أبو الهنود

وأنت تتابع الحرب الضروس التي أحرقت الأخضر واليابس، متوجةً بمقتلة كبرى حرب إبادة جماعية مكتملة الأركان، يشنّها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني أينما تواجد، مدعومًا من الإدارة الأمريكية، وفي خضم هذا المشهد، تتوالى عليك المفردات تلو المفردات: مفاوضات، لقاءات، إدانات، مطالبات … تارةً يُقال إننا اقتربنا من اتفاق، أو هدنة، أو تهدئة، أو حتى اتفاق جزئي أو متكامل، وتارةً تُضاف تحفظات وملاحظات واستدراكات، ويُقال إن طرفًا قبل والآخر رفض.

لكن المحصّلة تبقى واحدة: المقتلة مستمرة، والدم ينزف بلا انقطاع، واللاعب الرئيسي واحد، يمتلك سطوة القوة وسلطة المال والنفوذ ويحتكر القرار؛ حاوي يلاعب الجميع لإطالة الزمن حتى يكتمل مشروعه.

ليست كل أشكال الاحتلال سواء، فحين يكون الاحتلال إحلاليًا، لا يكتفي باغتصاب الأرض، بل يسعى لاستبدال أصحابها، واقتلاعهم من الجذور، ومحو حضورهم المادي والرمزي، ليقيم على أنقاضهم روايته وسلطته وتفاصيل دولته؛ وهنا، وفي سياق الاحتلال الإسرائيلي، لا يكتفي العدو بالقصف والتدمير، بل يمدّ يده إلى الذاكرة، ويغرس وهمه في الوعي، فيغدو سحره أخطر من سلاحه، وخداعه أعتى من رصاصه.

في مثل هذا النوع من الاحتلال، تتفعّل خاصية “جراب الحاوي”؛ يبدأ العدو بسرد الرواية التي لا تمتّ للحقيقة بصلة، ويشيّد الأسطورة، ثم ينسج شبكة الوهم: تلاعب بالوعي، وإنكار للواقع، وتفكيك للمجتمع، وصناعة بيئة طاردة للحياة، خانقة للكرامة، مثبّطة للعزيمة.

“الحاوي” في هذا المشهد ليس مجرد ساحرٍ في سيركٍ سياسيّ، بل لاعب خبير على خشبة المسرح الدولي، يوظّف الحركات المراهقة، وذوي النظر القصير أو المفتقرين إلى البصيرة، والأيديولوجيات الجامدة، ويتلاعب بالعقول لا ليُقنع، بل ليُسكت، يهيّئ للذرائع، ويغذّي الانقسام، ويزرع الفتنة، ويُلبس أدواته أقنعة من الوطنية، والواقعية، والشرعية الموهومة.

وماكر هو “الحاوي” حين يستدرج بعض الجمهور ليكونوا أدوات في تثبيت خدعته، يصعدون إلى المسرح وهم يظنون أنهم شركاء في العرض، في حين أنهم مجرد بيادق في اللعبة، وقد بدا هذا جليًا في الحالة التي تصدّرت فيها شخصيات وقوى وتنظيمات مختلفة ظنّوا أن الاقتراب من جراب الحاوي سيمنحهم شرعية تعطيهم السيادة على المسرح؛ لكنها شرعية مجتزأة، مشروطة بالارتباطات الإقليمية والحسابات التنظيمية والتوازنات الهشّة، لا تتجاوز حدود ما هو مسموح به من الحاوي، لتستمر اللعبة في إحكام السيطرة واتساع دائرة النفوذ بتكريس الوهم وتعميم الفوضى الساخرة.

إن “جراب الحاوي” ليس مجرد استعارة، بل تعبير عن فلسفة سياسية خطيرة، تقوم على صناعة الإذعان لا فرضه، وتثبيت الاحتلال لا بوجوده العسكري فحسب، بل بقبول الناس لوجوده بوصفه أمرًا واقعًا، وكما قال فوكو: فإن السلطة الحديثة لا تمارس قهرها بالقوة فحسب، بل من خلال تشكيل الوعي نفسه، بحيث تصبح أدوات الهيمنة جزءًا من تفكير الضحية، فيتحوّل الواقع المشوّه إلى “حقيقة”، والمقاومة إلى “اضطراب”، والهيمنة إلى “نظام”.

إن الاحتلال الذي لا يرحل، لا يبقى فقط لأنه قوي، بل لأنه يجيد استخدام جرابه المليء بالأساطير والخدع والشخصيات الزائفة، وكلما طالت اللعبة، ازداد التصفيق، وابتلع الناس طُعم الإبهار.

لكن “الحاوي” – مهما أجاد لعبته – يظل مجرد حاوي، لا يملك من القوة إلا ما يمنحه له الجمهور من تصديق وخضوع، قوته ليست في حقيقته، بل في الوهم الذي يبيعه، وفي الجمهور الذي يصفق للعرض.

ومن هنا، فإن الطريق إلى الخلاص لا يمر عبر البحث عن حاوي جديد أو انتظار معجزة على خشبة مسرح الآخرين، بل عبر خطوات عملية تعيد للحقيقة مكانتها وللوطن كرامته. 

أول هذه الخطوات ما أكدنا عليه في المقالات السابقة وهو إعادة القرار الوطني إلى صاحبه الشرعي المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الإطار الجامع والممثل الشرعي لشعبنا وصاحبة الولاية في إدارة عملية التفاوض، واستعادة الذات الوطنية من براثن التشظي والانقسام، وذلك بنبذ كل ما فرّقنا وأضعف جبهتنا الداخلية، ويلي ذلك بناء الثقة بالقيادات الوطنية النابعة من الميدان، المرتبطة بمصالح الناس وكرامتهم، والقادرة على أن تكون مرجعًا جامعًا في زمن الفوضى، وتحصين الشرعية الوطنية وصونها من محاولات التحييد أو التقويض.

كما أن المطلوب توحيد الرؤية والموقف، بحيث يتحول الصمود والمقاومة إلى مشروع وطني جامع لا إلى جزر متفرقة، إلى جانب تثبيت روايتنا الفلسطينية في الوعي العالمي عبر الإعلام والثقافة والدبلوماسية الشعبية، لإبطال سحر الحاوي الذي يتغذى على الأكاذيب وتزييف الحقائق.

بهذه الخطوات، يمكن للمسرح أن يتحرر من أوهام الحاوي، ويعود إلى أصحابه الشرعيين: الشعب الفلسطيني، فالوهم، مهما طال عمره، لا يصمد أمام وعي يتراكم، وإرادة تتوحد، وحقيقة تستعيد حضورها، وحين تستعيد فلسطين ذاتها الموحدة، فإن الحاوي يفقد جرابه، ويسقط سحره، وتبقى السيادة لشعبٍ لا تُهزم إرادته، مهما طال ليل المسرح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى