جنود بثياب سوداء وجرافة: شهادة الناجي الوحيد من مذبحة الإسعاف في رفح

لم يكن يعرف أن الليل سيطول إلى هذا الحد.
حين جلس منذر عابد في مؤخرة سيارة الإسعاف، لم يكن يتهيأ لموتٍ محتمل، بل كان يستعد لإنقاذ حياة أحدهم، كما فعل عشرات المرات منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023.
يروي منذر حكايته لـ«القدس العربي».
الهواء كان خانقًا، والأنين يتسلل من اللاسلكي على هيئة استغاثات من حي تل السلطان غرب مدينة رفح، حيث يُطوى الزمن ما بين صاروخين، ويُدفن صوت الإنسان بين ركام البيوت وأنقاض الخيام.
ركب السيارة بهدوء، إلى جواره زملاء يعرفهم كما يعرف أسماء أطفاله. خمسة عشر شخصًا، ما بين مسعفين وعناصر دفاع مدني، وأحد موظفي إحدى وكالات الأمم المتحدة، تحرّكوا بنبض واحد، وإيمان واحد، أن لا شيء أنبل من أن تُمد يدك لمن ينزف.
الطريق إلى منطقة «الحشاشين» غربي مدينة رفح لم يكن طويلًا، لكنه كان محاطًا برائحة الموت. كانت السيارات مضاءة بالكامل، كأنها تصرخ للسماء: «نحن لسنا مقاتلين». فوق الأسطح المهجورة، وتحت الشرفات المهدّمة، مرّ الركب الإسعافي، ورفرف قلب منذر بين ضلوعه حين لمح دمعة تتدلى من عين زميله السائق، دون أن تُقال.
وصلوا إلى الموقع، ولم تكن هناك فرصة لتوزيع المهام أو الهبوط من العربات، يتابع المسعف الناجي رواية تفاصيل الجريمة.
جاء الرصاص كالمطر، لا من السماء، بل من الأرض نفسها.
قال منذر: «ما إن توقّفنا حتى انهمر الرصاص. لا إنذار، لا تحذير. فقط الرصاص».
انبطح في مؤخرة السيارة، التصق بالأرضية المعدنية الباردة، وبدأ يسمع شهقات ليست قادمة من الخارج، بل من قلب المركبة نفسه. زملاؤه كانوا يُقتَلون، دون أن يتمكن أحدهم من الصراخ.
«كانت الشهقات الأخيرة لهم مثل همسات موتٍ متواطئة مع الليل»، يقولها منذر، ثم يصمت طويلًا.
تسلل صوت آخر إلى الحلبة: العبرية.
جنود، بثياب سوداء، وجوههم معتمة بظلال الخوذ والنوايا، اقتحموا السيارة. فتحوا الباب الخلفي. سحبوه من قدميه كما يُسحب كيس قمح من عنق شاحنة.
«وضعوا رأسي على الأرض. لا يريدونني أن أراهم، ولا أن أرى مصير من كانوا بجانبي»، يحكي بصوت خفيض.
تعذيب شديد وجرافة في الخلفية.
ضربوه. لا بأس، فالجسد في الحرب يفقد خصوصيته.
عصبوا عينيه. سألوا عن اسمه، عن عنوانه، عن مكان وجوده في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حققوا معه لمدة 15 ساعة كاملة.
سألوه كأنهم يبحثون عن ذريعة للرصاصة التالية.
كلما أجاب، تلقى ضربة، ومع كل ضربة تمنّى الموت، لا خوفًا، بل هروبًا من الإهانة.
«لم أعد أفكر في من مات، بل تمنّيت أن أكون أحدهم»، يهمس.
ما لم يكن يعرفه منذر في تلك اللحظة، هو أن خلفه كانت هناك جرافة تتقدّم، ليست لفتح طريق، بل لردم الحقيقة.
الجنود، بعد أن قتلوا من كانوا في السيارات، حفروا ثلاث حفر بآلات عسكرية ضخمة، ودفنوا المركبات، بمن فيها.
لم تكن هناك مراسم دفن، لا سورة يس، لا دموع.
فقط الرمال تنهال على أجساد ملائكة الأرض، فوق وجوههم الطيبة، وأحلامهم التي لم تنتهِ بعد.
ماذا أخفت الجرافة عن العالم؟
مرت الأيام.
مقبرة جماعية
في 27 آذار / مارس، عثر أهالي المنطقة على مقبرة جماعية تبعد حوالي مئتي متر عن موقع الاستهداف.
15 جثمانًا كانت هناك. بعضها مكبّل اليدين، وبعضها مشوّه، ورصاصٌ مزروع في الصدور.
ثم، كعادة القاتل، جاء الكذب.
الجيش الإسرائيلي قال إن طواقم الإسعاف لم تكن تُظهر أضواء الطوارئ، وإنها اقتربت «بشكل مريب»، وإنه كان هناك عنصر من حماس.
لكن الحقيقة كانت موثقة، في جهاز هاتف نقال، التقط آخر لحظات الطاقم، بأضوائه المشعة، وبقلوبه المنكشفة للسماء: «سيارات الإسعاف والإطفاء كانت واضحة العلامات، مضاءة إشارات طوارئها، حين فتحت قوات الاحتلال النار عليها».
نُشر الفيديو.
فاضت به شاشة «نيويورك تايمز»، وتكشّف الزيف.
الجيش الإسرائيلي تراجع عن روايته، لكن لم يتراجع عن الجريمة.
قال إن الجنود ظنوا أن المركبة تهددهم، لكن منذر الذي كان في قلب العاصفة، يوضح: «لم يكن هناك أي خطر، كنا واضحين، كنا فقط نحاول إنقاذ حياة».
ثم يؤكد أن المنطقة -الحشاشين- التي كانوا فيها كانت إنسانية، ولم تكن أبدًا مسرحًا للعمليات العسكرية.
بصوت مشروخ يقول: «سمعت أنفاسهم الأخيرة، دون أن أرى وجوههم. لم أودعهم، لم ألمس أيديهم، لم أخبرهم أني كنت فخورًا بالعمل معهم».
رفح تعرف أبناءها جيدًا، تعرف المسعفين الذين لا ينامون، والدفاع المدني الذي يحفر بأظافره تحت الركام.
والآن، تعرف أيضًا كيف تُدفن الحقيقة، تحت جنازير الجرافات، وتُمسح آثارها باسم «الإجراءات الأمنية».
منذر، الذي نجا بجسده، لم ينجُ بروحه.
تلك اللحظة لا تفارقه.
كلما سمع أزيز طائرة، أو ضوء سيارة إسعاف، يعود إليه صوت الشهقات.
يسأل نفسه دائمًا: «لماذا نجوت؟ هل كنتُ أضعف، أم أقوى؟».
مرت الأيام على منذر عابد كما تمر الساعات على قلوب من لم يفلحوا في الهروب من الموت. رغم أنه نجا بجسده، إلا أن روحه كانت قد دفنت هناك، في الرمال التي غطت رفاقه. لم يكن يقوى على التخلص من ذكرى تلك اللحظات التي شهد فيها زملاءه يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
في الأيام التي تلت الحادثة، عُرض الفيديو الذي وثّق اللحظات الأخيرة لتلك الطواقم. ورغم أن الصور كانت صادمة، إلا أنها كانت بمثابة الضوء الذي كشف حقيقة ما حدث. كانت إضاءة سيارات الإسعاف واضحة، وكانت الأضواء التي تلمع كأعين حيوانات الليل في بحر من الظلام، فكانت قلوب الناس معها.
كان الحزن يعلو صوت منذر كلما تحدث عن رفاقه. تلك اللحظات، على الرغم من أنها كانت محملة بالقسوة، كانت تُعيد تشكيل ذكرياته معهم. في تلك السيارة التي انقلبت فيها حياتهم، كان هناك شيء أكبر من الموت، شيء يتعلق بالإنسانية. عندما تسقط الإنسانية، تسقط القيم، ولا يصبح للفرد أي قيمة أمام آلة القتل.