حرف البوصلة.. د. إياد أبو الهنود

في ذروة حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وبينما تتهاوى البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتتكثف المجازر في الذاكرة الحية، بات واضحًا للعالم حجم الجريمة، واتساع رقعتها، وعمق الفضيحة الأخلاقية التي تطارد الاحتلال، من عواصم القرار إلى محاكم الجنائية، ومن الشوارع إلى شاشات الأخبار.
تتكشّف الوثائق، وتتوالى الشهادات، وتتصاعد الأصوات الحقوقية في محافل القانون الدولي؛ لكن، ومع هذا التقدّم في مسار كشف الجريمة، يلجأ الاحتلال، كما هي عادته، إلى تحريك أدواته السياسية والإعلامية – المباشرة وغير المباشرة – لتشتيت الانتباه، وتمييع الحقيقة، وصرف الغضب الأخلاقي العالمي الذي بات يهدد صورته وشرعيته المهترئة.
ليس هذا السلوك جديدًا على دولة بُنيت على الإنكار والكذب وصناعة الضحية المزيفة، لكنه يكتسب في هذه المرحلة طابعًا أشدّ خطورة، حين تُسهم أطراف فلسطينية – عن قصد أو سذاجة – في تسويق هذه اللعبة، والوقوع في فخّ حرف الأنظار عن أصل الجريمة.
من هذا الباب، يمكن فهم المشهد الغريب الذي قادته الحركة الإسلامية داخل الأراضي المحتلة عام 48، عندما نظّمت احتجاجًا أمام السفارة المصرية في تل أبيب، بذريعة الاعتراض على ما يُسمّى “إغلاق معبر رفح” أو “الحصار المصري”!!
وبالتدقيق في ضوء مناهج العلوم السياسية والنظرية السياسية يُظهر انحرافًا خطيرًا في التقدير والتوجيه، إذ إن توجيه البوصلة نحو طرف عربي، وترك الجلّاد الأصلي – الذي يحاصر ويقصف ويدمّر – في الظل، يُعدّ تقاطعًا موضوعيًا مع أهداف الجاني، لا مواجهة له.
الاعتصام في تل أبيب أمام سفارة عربية، وليس أمام وزارة الدفاع أو الكنيست أو مقر إقامة نتنياهو، لا يمكن أن يُفهم خارج سياق لعبة الوعي، حيث يتم خلط المواقع والهوية السياسية للفاعل والمسؤول، وتُمنح إسرائيل فرصة للتفرّج على مشهد فلسطيني يحمّل العرب وزر مجازرها.
هذا ما عبّر عنه محمود درويش بوضوح حين قال: “الاهتمام الغربي بالقضية الفلسطينية نابع من كونها تتقاطع مع إسرائيل، لا لأنها مأساة إنسانية.”
فحين يتحوّل مشهد التظاهر من احتجاج على دولة محتلة ترتكب جرائم حرب، إلى احتجاج على سفارة عربية، في قلب تل أبيب، وتحت لافتة “الحصار المصري”، فإن القضية تُنزع من سياقها الاستعماري، وتُختزل إلى عتاب عربي داخلي، وتُصبح أكثر ملاءمة لكاميرات الغرب الباحثة عن الانقسام، لا عن العدالة.
لقد أصبح الحدث مغريًا للسردية الإسرائيلية ذاتها، التي ظلّت تدّعي أن مشكلتها ليست مع الفلسطينيين بل مع حلفائهم، وأن فشل غزة ليس بسبب الاحتلال بل بسبب جيرانها؛ ومن هنا، تتبدى خطورة الموقف لا في رمزيته فقط، بل في مآلاته، حين يُعاد تشكيل الخطاب الفلسطيني بما يخدم رواية العدو، ولو عبر افتعال بأنه فعل احتجاجي لحظي وعاطفي.
لكن، كل هذا لا يجب أن يُلقي بظلاله على الحقيقة الأكثر رسوخًا، وهي أن مصر، رغم كل التحديات، رفضت بشكل حاسم مشاريع التهجير القسري، وتمسّكت برفضها القاطع لأي حل على حساب الفلسطينيين أو أرضهم، وكانت حائط صدّ سياسي وإنساني في وجه المشاريع الإسرائيلية التي سعت مبكرًا لتحويل المأساة إلى صفقة.
بل إن القاهرة أدّت دورًا محوريًا في إدخال المساعدات، وفتحت المعبر في ظروف خطيرة، وواجهت ضغوطًا هائلة، وقادت جهودًا دولية ساهمت في إحداث اختراق في الخطاب الغربي تجاه فلسطين، انعكس في إعلان عدد من الدول نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هذا الدور، مهما سعت هذه الثلة إلى التشكيك فيه، لا يُبرر أن يُحمَّل وزر المجزرة، ولا أن يُصدَّر للرأي العام على أنه جوهر المأساة، خاصة حين يُرتكب هذا التزييف في قلب عاصمة الاحتلال، وبأيدي حركة تَحسب نفسها على المشروع الإسلامي.
ما جرى لم يكن تعبيرًا عن انحياز ميداني، بل سقطة أخلاقية وسياسية ستبقى علامة استفهام تلاحق أصحابها، ففي زمن الإبادة، لا يكفي أن ترفع شعار “مع غزة” وأنت تضع الكاميرا في المكان الخطأ، وتوجّه الغضب نحو العنوان الخطأ، وتترك الجاني الأصلي خلف الستار.
غزة لا تحتاج إلى من يصنع لها مسرحًا رمزيًا لتسديد رسائل جانبية، بل إلى من يُسمّي القاتل باسمه، ويُحاصر الجريمة في عقر دارها، ويصرخ في وجه الكنيست، لا في وجه سفارة عربية.
ومن يقف اليوم في المكان الخطأ، وتحت الشعار المشوَّش، إنما يُسهم – شاء أم أبى – في تمويه الجريمة، وحرف العدالة، وتزييف بوصلة الرأي العام الدولي في لحظة حرجة.
العدو واضح، والسلاح واضح، والجرح واضح، ومن لا يرى ذلك بوضوح، أو يتهرّب منه بخطاب مزدوج، فليس في صف الضحية حتى لو تغنّى باسمها.
إن ما دون تسمية القاتل، ومحاصرته في لغته ومكانه وأدواته، هو لغو لا ينفع، وهو سقوط لن يُغفر، ومراوغة لن تسترها العواطف ولا المبررات.