اخبار

حروب العشرية الثالثة (29)…

حروب العشرية الثالثة (29)…

2025 May,20

ما تحصل عليه هو ما تراه (What you get is what you see)، من العبارات الشائعة في لغة الدعاية والتسويق. وهي، على الأرجح، الأقرب إلى المنطق، والتي يمكن التعقيب بها على زيارة دونالد ترامب. لذا، لا فائدة من البحث عن شيء لم تره الأعين على شاشة التلفزيون، بل الفائدة، كل الفائدة، في تحليل ما رأته الأعين.

لا معنى، في سياق كهذا، لكل ما سبق الزيارة ورافقها من تكهنات عن وقف عاجل لإطلاق النار في غزة، تعبيراً عن هيبة الزعامة الترامبية، والحاجات الإبراهيمية (لغايات الاستهلاك المحلي على الأقل) وعن خلافات ترامبية مع نتنياهو، إلا بوصفها محاولات دعائية للتمويه والتضليل. هذا ما عالجناه في مقالة الثلاثاء الماضي. لذا، ينصبّ اهتمامنا، اليوم، على ما رأته الأعين. وما رأته الأعين يبدو أقرب إلى تمثيل «لفن الصفقة» بالمشاهد الحيّة والممثلين الأصليين، على شاشة تلفزيون للواقع، منه إلى أي شيء آخر.
«فن الصفقة» هو عنوان كتاب نشره ترامب باسمه في أوائل التسعينيات، واستعرض فيه مهاراته الشخصية، كتاجر عقارات ناجح، في عقد الصفقات. (عبّر الكاتب الشبح، أي الأصلي، للكتاب عن ندمه بعد فوز ترامب بالرئاسة). وبما أن مطبوعات من نوع «كيف تكسب الأصدقاء» و»دع القلق وابدأ الحياة» شديدة الرواج بين شرائح واسعة من الأميركيين الذين خذلهم «الحلم الأميركي»، سرعان ما حقق الكتاب نجاحاً باهراً، وأعقبه ترامب بكتب إضافية (كتبها له آخرون، بطبيعة الحال) بعناوين من طراز: «كيف تغتني» و»كيف نُصلح أميركا». الخ.
يعدد ترامب في «فن الصفقة» عدداً من الشروط التي ينبغي توفيرها لعقد صفقة رابحة. ومنها: إذا أردت التفكير في أمر ما ففكر بالشيء الكبير، أعطِ أولوية للحدس على المعطيات المعقدة، احتفظ بعدد من الصفقات لكيلا تنتهي معتمداً على واحدة، الدعاية أداة قوية جداً في المفاوضات، وأشعِر الآخرين بحاجتهم للصفقة أكثر منك.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن سيرة ترامب المهنية لا تدل على نجاح أو براعة في عقد الصفقات. فعلى مدار ثلاثة عقود من العمل في تجارة العقارات، أعلن إفلاسه أربع مرّات، كما أنه ورث القسط الأكبر من ثروته من أبيه، ناهيك عن كذبه الدائم، ومراوغته في الإفصاح عن ثروته الحقيقية. لم يقدّم منذ ولايته الأولى، حتى الآن، إقرار الذمة المالية، الذي يقدمه الرؤساء الأميركيون عند دخول البيت الأبيض.
ومع هذا كله في البال، يمكن العثور على عدد من بنود «فن الصفقة» في زيارته للمنطقة. فقد أعلن في السابع من آذار/ مارس الماضي: «سأزور السعودية. عقدتُ صفقةً معهم. تقتضي العادة زيارة المملكة المتحدة أولاً. في زيارتي الأخيرة للسعودية دفعوا 450 مليار دولار. قلت لا بأس. أما هذه المرة فقد صاروا أكثر ثراءً، وكلنا تقدمنا في العمر. لذا قلتُ سأزوركم إذا دفعتم تريليون دولار لشركات أميركية، ما يعني مشتريات بتريليون دولار على مدى أربع سنوات. وقد وافقوا على الطلب».
من الواضح، هنا، أنه «يفكر بالشيء الكبير». ولا ضرورة لسرد مزيد من الأرقام عن المبالغ التي تعهّد الإبراهيميون باستثمارها في الاقتصاد الأميركي. وقد أوجز الأمر في نهاية الزيارة بالحصول على مبالغ تتراوح ما بين 3.5 تريليون دولار و4 تريليونات دولار، قيمة مشتريات واستثمارات على مدار عقد من الزمن.
يمكن التدليل على بقية بنود «فن الصفقة» بمعطيات إضافية عن حاجات الآخرين، وضرورة الاحتفاظ بعدد من الصفقات، وعن أهمية الدعاية، وأولوية الحدس على المعطيات. ثمة الكثير من الشواهد في هذا المجال، وبعضها مثّل في حينه إهانة بالغة لمضيفيه. لا نحتاج هذه الشواهد الآن، كل ما في الأمر أن تاجر العقارات، الذي يتباهى ببراعته الفائقة في عقد الصفقات، قد أفرط في الكلام عن صفقات التريليونات، المشكوك في إمكانية تحقيقها كاملة، لحجب صفقات من نوع آخر، شخصية وعائلية، أكثر قابلية للتحقيق، وأقل إثارة للضجيج من الأولى.
الخلاصة أن جانباً يصعب التحقق من حجمه من كلام التريليونات، وهو كبير بالتأكيد، يندرج في باب نوايا ووعود لم تخضع للدراسة والتقييم، ولم تُصغ في عقود تُوقّع بصفة رسمية، وتنص على المواصفات، وقيمة المنتج، وشروط التسليم. وهذا قد يستغرق سنوات وسنوات، ناهيك عن حقيقة أن بعض الدول قد لا تكون قادرة على تسديد ما تعهدت به نتيجة انخفاض أسعار النفط، والإنفاق الهائل على مشاريع فاشلة، أو قليلة المردود. هذا لا يعني أن الأميركيين لن يحصلوا على الكثير من الأموال والاستثمارات نتيجة الزيارة، بل يعني ضرورة وضع المبالغات والمبالغ الترامبية (وهي مصدر سعادة لمضيفيه) في إطارها الصحيح.
وخلاصة القول، أيضاً: إن الصفقات المحجوبة، التي لم تنل ما تستحق من الدعاية، هي غاية المراد من رب العباد في المخيال الترامبي، والتمثيل الحقيقي لفن الصفقة. فمنذ عودته إلى البيت الأبيض في مطلع العام، تضاعفت استثمارات الإبراهيميين في شركات ترامب، ووقعوا مع أولاده، وأصهاره، وكبار مساعديه، عقوداً عقارية، وخدمية، وشراكات في العملة الرقمية، تقدّر بمليارات الدولارات، إضافة إلى هدية شخصية (رشوة) طائرة بقيمة أربعمائة مليون دولار.
وقد يسأل سائل: ولكن أين السياسة؟ السياسة هي ما رأيتم وسمعتم: إفراط في البذخ، طقوس احتفالية، وثناء على الذات، في عالم اشتعلت فيه النيران، كأنها مشاهد ختامية على سطح التايتنك. فاصل ونواصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى