حروب العشرية الثالثة (37)..

حروب العشرية الثالثة (37)..
2025 Jul,15
لا معنى للتفكير في اتفاقات أوسلو في معزل عن الحظوظ المتغيّرة لفكرة اقتسام الأرض مع الفلسطينيين، أو الاستيلاء عليها، وطردهم منها، في المخيال السياسي لآباء الحركة الصهيونية، والدولة الإسرائيلية، منذ نهايات القرن التاسع عشر. ولا معنى لقياس الحظوظ المتغيّرة استناداً إلى منطق آخر غير منطق موازين القوى، ومدى إحساس الآباء وأبنائهم وأحفادهم بالقدرة على ترجمة الطموح إلى حقيقة على الأرض. وبهذا المعنى لا تقتصر موازين القوى في أذهان هؤلاء على معطيات محلية، بل تشمل متغيّرات في الإقليم والعالم.
ولا معنى، أيضاً، لفهم مصائر أوسلو الواقعية، والمحتملة، في معزل عن الصراع بين أجنحة مختلفة في زمن الآباء والأبناء والأحفاد. وإذا كان أوسلو، أي القراءة العمالية لموازين القوى بعد نهاية الحرب الباردة، آخر حلول اليسار الصهيوني لتفادي خطر الدولة ثنائية القومية، والآثار السلبية للاحتلال على المجتمع الإسرائيلي، فإن عملية إجهاضه نجمت عن قراءة يمينية مغايرة لموازين القوى بعد نهاية الحرب الباردة، معطوفة على الحرب العربية ـ الأميركية لطرد صدّام من الكويت (1991) والحرب على الإرهاب بعد 11 أيلول (2000).
وينبغي التذكير، في سياق كهذا، أن القراءة اليمينية لموازين القوى تبلورت بطريقة متدرجة، وتأثرت بما تراكم من عناصر القوة في الصعود السياسي والأيديولوجي لنتنياهو، وما طرأ من تحوّلات على قوى اليمين القومي والديني. والواقع أن عبارة لموشي أرينز، الذي كان من ألمع مفكري اليمين، تفسّر هذا الأمر بما قل ودل: «ما لا تستطيع تحقيقه، اليوم، قد تحققه، غداً». هذا يعني: إذا كنّا لا نستطيع إسقاط أوسلو، اليوم، فقد نتمكن من ذلك في يوم قادم. وإذا كنّا لا نستطيع طرد الفلسطينيين، اليوم، فقد نتمكن من ذلك في يوم قادم. الخ
أودى آخر الحلول بحياة اسحق رابين، وأطلق عملية ستكون نهايتها انهيار الهيمنة العمالية على الدولة والمجتمع. وفي المقابل، صعد على موجة القراءة اليمينية بنيامين نتنياهو، الذي سيغيّر وجه الدولة والمجتمع الإسرائيليين بطريقة نهائية وحاسمة. وما زال الصراع في فلسطين وعليها محكوماً بديناميات وتداعيات الموجة المعنية.
المهم أن عبارة «ما لا تستطيع تحقيقه، اليوم، قد تحققه، غداً» تصلح لتفسير السياسة الإسرائيلية بعد وصول نتنياهو إلى رئاسة الحكومة (1996) وتوصيات المحافظين الجدد في العام نفسه، التي مثّلت خارطة طريق لسياسة نتنياهو الداخلية والخارجية. ويعنينا منها، اليوم، «إسقاط أوسلو» و»رفض معادلة الأرض مقابل السلام».
ومع هذا في الذهن، يمكن فهم العبارة الختامية في معالجة الثلاثاء الماضي، ومفادها أن حماس كانت هي الحل (كما كانت إيران على مستوى الإقليم) في سياق التعليق على سؤال كفافي «ماذا سنفعل بلا برابرة»، وملاحظة أن البرابرة كانوا هم الحل. يمكن الكلام عن إيران في سياق آخر، أما كيف كانت حماس هي الحل فهذا ما تفسّره توصية «إسقاط أوسلو» و»رفض معادلة الأرض مقابل السلام».
والواقع أن حماس كانت حلاً مدهشاً، على أكثر من صعيد، في نظر كل مَنْ يسعى لإسقاط أوسلو: فهي معادية لأوسلو، ومعادية للسلطة الفلسطينية، والحركة الوطنية ممثلة في منظمة التحرير، علاوة على كونها ظاهرة وثيقة الصلة بالجغرافيا السياسية لقطاع غزة، الذي ستتمكن من الاستيلاء عليه بعد حرب أهلية قصيرة.
ومع مرور الوقت، خاصة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، وهجمات 11 أيلول، والحرب الأميركية على الإرهاب، اتضح أن فائدة حماس لا تقتصر على ما تقدّم، فهي جماعة جهادية إسلامية، تشن عمليات انتحارية، وتعادي اليهود لأسباب دينية. وهذه كلها أسلحة دمار شامل بالمعنى السياسي والأيديولوجي في عالم ما بعد الحرب الباردة، وصراع الحضارات، والحرب على الإرهاب. والواقع أن اصطفاف قوى مختلفة في الولايات المتحدة، والغرب عموماً، إلى جانب إسرائيل، ورؤيتها كمثال يحتذى، وتفسير حرب الإبادة كصراع بين حضارات، مصدره ما تبلور وتراكم من تحريض ودعاية في العقد الأوّل والثاني من هذا القرن.
ولا فائدة، في سياق كهذا، من التدليل على فوائد حماس لليمين الإسرائيلي بنماذج تمثيلية، سواء تعلّق الأمر بفصل الضفة عن قطاع غزة، أو عدم التقدّم في «عملية السلام» لعدم وجود الطرف الفلسطيني الذي يمكن التفاوض معه. كما ذكر ناطقون إسرائيليون منذ الانقلاب. المهم أن هذه الأشياء، وغيرها الكثير، تفسّر كيف صارت «هي الحل» بالمعنى المجازي في ملاحظة كفافي.
ومع ذلك، ثمة ما يبرر التذكير بعدد من التحفظات: لم تكن حماس صنيعة إسرائيل، بل نتيجة تشظي الحقل السياسي الفلسطيني، والنفوذ الطاغي لخرافة وهم اسمه «وحدة القوى الوطنية والإسلامية» لم يحل دون الانقلاب على السلطة في غزة، ولم يُسهم في تدارك نتائجه الكارثية على مدار 18 عاماً من «الانقسام»، ناهيك عمّا نجم عن الانتفاضة الثانية من نتائج كارثية.
وتبقى ملاحظة أخيرة: هل تنم محاولة إسقاط أوسلو، كما تجلت على مدار ثلاثة عقود، وما تخللها من صراعات، ومناورات، وسياسات، بوصفها ترجمة لتوصيات المحافظين الجدد، عن نظرة استراتيجية، وحسابات صحيحة للمستقبل؟ الجواب لا، بالتأكيد. وحرب الإبادة خير شاهد ودليل. وهذا على أي حال موضوع آخر. فاصل ونواصل