حروب العشرية الثالثة (7)…
حروب العشرية الثالثة (7)…
2024 Nov,19
قلنا في معالجة سبقت: إن ولاية ترامب الثانية لن تكون مختلفة عن الأولى. ومع ذلك، وبقدر ما يلوح من الثانية في الأفق، فإنها تبدو كارثية تماماً، حتى بحسابات الكوميديا السوداء، التي يحرز فيها المذكور قصب السبق بطريقة غير مألوفة. حتى وقت قريب كانت تفاهات الساسة، وحماقاتهم، محجوزة بالكامل لطغاة من «العالم الثالث». وغالباً ما كان هؤلاء مادة للتندّر، ولكن الآية انقلبت الآن، وصارت للأميركيين، وهم سادة العالم، حصتهم من تفاهات الساسة وحماقاتهم، بطريقة تبدو فريدة، وتثير من مشاعر الذعر، أكثر مما تستنفر من غواية التندّر.
تكلّمنا عمّا يلوح من الولاية الثانية في الأفق، وهذا يشمل قائمة مَنْ اختارهم ترامب لمناصب أساسية في الإدارة الجديدة. وقد أثار هؤلاء ذعر الكثيرين لا في الولايات المتحدة وحسب، بل وفي كل مكان آخر من العالم، أيضاً. فالمرشح لوزير الصحة، مثلاً، شخص من عائلة كيندي الأميركية العريقة، يؤمن بنظرية المؤامرة لتفسير أشياء كثيرة، ولا يؤمن بالعلم، رفض التطعيم ضد الكورونا، وشن حملة على الداعين إلى التطعيم.
مرشح ترامب لوزارة الدفاع شخص في الرابعة والأربعين، يدعى بيت هيغسيث، اشتغل حارساً في غوانتانامو، ومقدماً للبرامج في محطة فوكس نيوز. وبعد الإعلان عن الاسم والوظيفة، تناقلت وكالات الأنباء صور المذكور عارياً، وعلى جسده وشوم مختلفة. على الصدر صليب القدس، رمز مملكة القدس الصليبية، وعلى الذراع عبارة باللاتينية مفادها «الله أراد»، وتلك كانت صرخة المحاربين في زمن الحروب الصليبية (يُعتقد أنها كانت صرخة البابا أوربان الثاني الذي أطلق شرارة الحروب الصليبية) وعلى الذراع الثانية العلم الأميركي مرفوعاً على بندقية، إضافة إلى أحرف بالعبرية، وما يبدو جسداً مقطّع الأوصال لأفعى.
الوشم، في هذه الحالة، وغيرها، رسالة وعلامة وبيان. ولا نحتاج إلى كثير من البراعة لتفسير الحالة الذهنية، أو القناعات الأيديولوجية لشخص يحتفي بكل هذا العدد، وكل هذا النوع، من الوشوم. ولعل في مجرّد وجود هذا الشخص في وظيفة من وزن وزارة الدفاع في دولة هي الأهم، في العالم، حتى الآن، ما يكفي للحكم عليه، وعلى من اختاره، في آن.
لا أسعى للهبوط بمناقشة أعتقد أنها جادة، فعلاً، إلى الميلودراما. ولكن في سلوك ترامب نفسه ما يؤهل الميلودراما نفسها لتلتحق بمرتبة الجاد، وكل ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. فشارب جون بولتون، مثلاً، الذي اختاره لمنصب مستشار الأمن القومي لفترة وجيزة في ولايته الأولى، وطرده بكثير من التشفي، كان مصدراً لنفوره، كما جاء في أكثر من تحليل جاد فعلاً لولايته الأولى. وبناء عليه، هل عززت الوشوم على جسد المرشح لوزارة الدفاع فرص صاحبها؟
على أي حال، لا ضرورة لحشد أمثلة إضافية. كل ما في الأمر أن ما كان حكراً على طغاة من «العالم الثالث» لم يكن مرشحاً للتعميم خارج بلاد الطاغية نفسه، الذي لم يكن في وسعه فرض سلوكه الشاذ كمعيار للعلاقات الدولية، وانحصرت أفضل أوراقه في توكيل شركات للدعاية والإعلان في عواصم الغرب الكبرى، لتلميع صورته مقابل الملايين. ومع ذلك، وحتى مع الملايين وشركات الدعاية والإعلان، بقيت تفاهات الطاغية، وغرابة أطواره، محصورة في نماذج شمولية متخلفة، أي كل ما ليس الغرب الديمقراطي الليبرالي.
وبناء عليه، يتجلى مصدر إضافي لما تثيره الولاية الترامبية الثانية من ذعر. فقابلية تعميم الميلودراما الرخيصة، وتطبيع الظاهرة الترامبية نفسها، استناداً إلى فرضية أن السياسة هي تبادل للمنافع والمصالح، ولا مكان فيها للقيم، تبدو قوية، وذات أنياب، في زمن ثورة وتكنولوجيا وسائل الاتصال، ومهارات غسل الأدمغة، ومع وفرة المال، والشبكات، والبنى التحتية، ناهيك عن حقيقة أن صاحب الميلودراما هو الشخص الأقوى في العالم.
يُدرك الأميركيون، أعنى القوى التي أفزعها فوز ترامب، أن مصير الديمقراطية في بلادهم صار في الميزان، وأن المسافة التي تفصلهم عن احتمالات تفكك الاتحاد، والحرب الأهلية، لم تعد طويلة كما كانت في الماضي. لذا، يكافح هؤلاء تطبيع الظاهرة الترامبية، وفي وسعهم الاستفادة من ضمانات يوفرها النموذج الأميركي نفسه (حتى الآن على الأقل) للدفاع عن الديمقراطية، والتصدي للجنوح الترامبي، ومحاولة إسقاطه عن طريق صناديق الاقتراع.
ولكن ما يتوفر للأميركيين لا يتوفر لغيرهم في مناطق كثيرة من العالم، بما فيها الحواضر العربية، حيث لا حرية تعبير، ولا صناديق اقتراع (وإن وجدت فهي مجرد ديكور في انتخابات مزورة) والأسوأ من هذا كله أن تعميم الظاهرة الترامبية ينسجم فعلاً مع، ويخدم، طموح القوّة الإسرائيلية الصاعدة وحلفائها الإبراهيميين، وطغاة الحواضر.
لا معنى للسردية الإسرائيلية حول الصراع في فلسطين وعليها، ما لم تنجح في تجريد الصراع من الذاكرة، والمرجعيات، والحقائق، والتواريخ، وتصويره بمنطق الدفاع عن النفس. ولا معنى لكل سردية محتملة يبرر بها الإبراهيميون والطغاة تحالفهم مع الإسرائيليين، بعيداً عن منطق مكافحة التطرّف، ومديح الاعتدال، والتسامح، والتعاون بما يخدم سلام وسلامة وازدهار الجميع.
ومع هذا في البال، يمكن العثور على دلالة الترامبية، ومخاطر تطبيعها، في كلام ترامب نفسه، في معرض التعليق على حرب غير مسبوقة في تاريخ الحروب
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عن تمكين الإسرائيليين من «إنهاء ما بدؤوا به» (let them finish the job).
هذه العبارة هي العنوان الرئيس لولاية ترامب الثانية، وفيها ما يُزوّد كل هؤلاء بما يحتاجونه من وقت، ومفردات، وأدوات، ومبررات، لبناء سرديات جديدة في هذا الجزء من العالم. بهذا المعنى: رسم علامة استفهام دائمة على رأس ترامب وحلفائه دفاع عن الحقيقة، أيضاً. فاصل ونواصل.