حماس بين أوهام المكاسب الشكلية وضياع البوصلة الفلسطينية..د. جمال خالد الفاضي

تُعد السياسة اليوم أداة الشعوب والدول لبناء وجودها وصياغة مبررات بقائها، لكنها ليست مجرد شعارات أو بطولات ظرفية، بل هي فن يتطلب القدرة على إدارة المصالح واستشراف المستقبل وتحويل الأزمات إلى فرص. وفي الحالة الفلسطينية، يتضح أن غياب الرؤية الاستراتيجية وانعدام القدرة على التنبؤ بالتحديات جعل القضية الوطنية في مواجهة عاصفة من الأخطاء السياسية والمآسي الإنسانية.
التنبؤ بالمستقبل ليس ضربًا من التنجيم أو التخمين، بل هو علم يُبنى على تحليل المعطيات، ورصد الاتجاهات، واستقراء دروس التاريخ، وصياغة سيناريوهات واقعية لمواجهة التحديات. غير أن ما رأيناه من أداء حركة حماس خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد أحداث السابع من أكتوبر، أو في ظل المأساة الإنسانية المستمرة، يعكس غياب هذه القدرة. فقد تعاملت الحركة بعقلية رد الفعل، بدل أن تمتلك خططًا استراتيجية تحسب لكل الاحتمالات، الأمر الذي جعل الفلسطينيين اليوم يدفعون ثمن قرارات غير محسوبة. بل استمرت بالتعامل والترويج، وكأن فتح معبر، أو إدخال شاحنة مساعدات، أو مكسب إعلامي مؤقت هو انتصار سياسي، أو إنجازات مزعومة، بينما الواقع على الأرض يكشف عن كارثة إنسانية واستراتيجية متفاقمة.
لكن في الحقيقة أن هذه المكاسب الشكلية تأتي على حساب الوجود الفعلي للشعب الفلسطيني، في ظل مخططات الاحتلال لإضعاف كل مقومات الصمود والوجود. إن ما يخطط له الاحتلال ليس مجرد مواجهة عسكرية، بل إعادة صياغة واقع كامل يسلب الفلسطينيين أرضهم وحقهم في تقرير مصيرهم. ومع ذلك، لم تُبدِ حماس القدرة أو الرغبة بإعادة انتج علاقاتها الوطنية ضمن إطار فلسطيني عنوانه منظمة التحرير، أو حتى بناء خطاب سياسي يستثمر بناء تحالفات أو توظيف التحولات الشعبية في دول العالم لصالح القضية، بل عززت حالة الانقسام واصرت على بقاء تحالفاتها القديمة قائمة رغم الثمن الكبير الذي نتج عنها، وأبقت الصراع مفتوحًا بلا أفق سياسي.
أعمال المقاومة وحدها لم تعد تكفي، بل ربما تحولت إلى أداة استنزاف إذا لم تُدعَم بعقل سياسي يستشرف التغيرات الإقليمية والدولية ويعرف كيف يوظفها لصالح التحرر الوطني. لقد أهدرت حماس فرصًا عديدة لكسب حلفاء جدد خارج المحاور التقليدية، ولم تستثمر القانون الدولي أو الإعلام العالمي بالشكل الذي يخدم الرواية الفلسطينية.
إن مأساة الشعب الفلسطيني اليوم ليست فقط نتاج الاحتلال، بل هي أيضًا نتيجة قيادة عاجزة عن تحويل التضحيات إلى إنجازات سياسية حقيقية، قيادة ما زالت أسيرة أوهام الانتصار اللحظي بدل أن تسعى إلى صياغة مشروع وطني طويل المدى يحفظ الوجود الفلسطيني ويمنحه القوة على الساحة الدولية.
ما تحتاجه فلسطين اليوم ليس قيادة تفرح بشاحنة أو معبر، بل عقل استراتيجي قادر على قراءة موازين القوى العالمية، وتحويل التهديدات إلى فرص، والأزمات إلى نقاط قوة، ليبقى الشعب الفلسطيني ثابتًا في مواجهة كل ما يُخطط له من محو وتهجير.
إن ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم مشروعًا وطنيًا موحدًا يقوده ممثل الشعب الشرعي، منظمة التحرير، والتي تحظى بالاعتراف الدولي يوازن بين العمل المقاوم والسياسي، ويوظف القانون الدولي والدبلوماسية الشعبية لكسب دعم العالم. فإقصاء منظمة التحرير من المفاوضات الجارية في الدوحة، أو محاولة تجاوزها، هو اقصاء مقصود، ولا يصب إلا في مصلحة الاحتلال الذي يسعى لإضعاف الموقف الفلسطيني الموحد، بل سيعمل دوماً على إعادة إنتاج مبررات بقائه.
إن الدم الغالي الذي يُسفك من أبناء شعبنا والجوع والحرمان والموت لا يجب أن يذهب سدى، ولا يمكن أن يُستثمر في صفقات حزبية أو إنجازات وهمية. إن هذه التضحيات تستحق قيادة وطنية موحدة تمتلك رؤية استراتيجية تحفظ كرامة الشعب الفلسطيني، وتصون قضيته من العبث والتفريط.