اخبار

دحلان ومسيرة رجلٍ مختلف: الخصومة لا تحجب الحقيقة أو تسلب عدالتها..

من مذكّرات المستشار د. أحمد يوسف

في خضمّ حرب الإبادة التي يتعرّض لها قطاع غزة، برزت العديد من المبادرات والجهود الإنسانية التي سعت إلى التخفيف من وطأة الكارثة، وإبقاء جذوة الأمل مشتعلة في صدور المنكوبين والمحاصَرين والنازحين. ومن بين الوجوه البارزة في هذا المشهد، كان النائب محمد دحلان، الذي وقف خلف عدد من حملات الإغاثة الإنسانية، وسهّل عبور قوافل المساعدات إلي النازحين في الخيام بمختلف مدن القطاع، وساهم في تحريك جهود الدعم الطبي للمستشفيات، وتسهيل العلاج بالخارج للحالات الطارئة والخطيرة، إلى جانب تنظيم مغادرة الطلاب الفلسطينيين للالتحاق بجامعاتهم العربية والغربية في لفتة إنسانية راقية، تمّت بصمت وفعالية، بعيدًا عن ضجيج الإعلام.

قد يختلف الناس في تقييم مواقفه السياسية، كما اختلفتُ أنا مع كثيرين ممن اختلفوا في فهم دوره وتقييم موقعه على خارطة العمل الوطني، ولكن الأيام – كما علمتنا التجارب – هي المحكّ الحقيقي للرجال. وقد أثبتت هذه المحنة أن محمد دحلان، ابن المخيم، لم ينسَ أصله، ولا خذل شعبه.
 ويجدر التذكير هنا بأن دحلان هو ابنٌ أصيل لما تمثّله أخلاقيات المخيم وقيمه وسلوكيات أهله من رجولة ونخوة وهمّة وطنية عالية. وهي القيم التي تُصنع فيها معادن الرجال، وتُغرس فيهم معاني الوفاء والبذل والعطاء، والتقدّم إلى ميادين الفعل عندما تتراجع الأصوات وتخفت الشعارات.

من خانيونس المخيم.. البداية

وُلد محمد دحلان في مخيم خانيونس عام 1961، ونشأ في أسرة فلسطينية لاجئة عانت مرارة الشتات، كحال آلاف العائلات التي اقتُلعت من ديارها بعد نكبة عام 1948. ترعرع بين أزقة المخيم ومدارسه البسيطة، وهناك شقّ طريقه في التعليم، فكان طالبًا مجتهدًا، جمع بين الجِدّ في التحصيل وحبّ العمل التنظيمي منذ سنوات مبكرة. التحق بالشبيبة الفتحاوية في شبابه، وكان أحد الوجوه النشطة التي تأثّرت بالمناضل الكبير أبو علي شاهين (رحمه الله)، وتعلّمت منه مفاهيم الالتزام الوطني والانخراط في العمل الشعبي والنقابي.

من القاهرة إلى تونس: بدايات الصعود

من المواقف التي ظلّت عالقة في الذاكرة، تلك الجهود التي بذلها حين كان يدير مكتب حركة فتح في القاهرة، أواخر الثمانينيات، حيث قدّم تسهيلات حقيقية للعديد من المبعدين والمطاردين؛ ومنهم الأسيرين عماد أسعد الصفطاوي وخالد صالح، الذين نجحا في الهروب من السجن مع بعض المناضلين الآخرين.
اتخذ عماد وخالد طريقهما إلى مصر، باعتبارها  الملاذ الآمن لترتيب أمورهما. 
وجدا في  دحلان واجهةً للثقة والأمان، إلا أن 
 هذا الجهد الامني الإنساني والوطني النبيل لم يكن بدون ثمنٌ سياسي، إذ تسبب له في بعض المتاعب التي أدّت إلى إبعاده إلى العراق، ومن هناك إلى تونس، حيث التحق بالدائرة القريبة من الرئيس الراحل ياسر عرفات، وأصبح من قيادات الصف الأول في الحركة الوطنية.

محطة واشنطن: بداية تعارف رسمي 

كانت بداية تعارفي الرسمي بمحمد دحلان وجها لوجه في العاصمة الأمريكية واشنطن عام 2003، أثناء زيارة الرئيس محمود عباس (أبو مازن) للقاء نظيره الأمريكي جورج بوش الابن.
كان دحلان ضمن المرافق للرئيس، وقد لمست فيه آنذاك حيوية سياسية ووضوحًا في الموقف الوطني، رغم التباينات الظاهرة في المواقع والانتماءات.

في مرحلة لاحقة من عام ٢٠٠٥، استأنفنا التواصل الهاتفي خلال مفاوضات معبر رفح، حيث سعينا – من خلال وساطة مشتركة – إلى ترتيب لقاء بين دحلان والدكتور موسى أبو مرزوق في القاهرة. 
 كان اللقاء بين الطرفين إيجابيًا ومهنيًا، هدفه البحث عن آليات للتفاهم وفتح قنوات حوار من شأنها تخفيف حالة التوتر القائمة آنذاك، وتكرّر اللقاء لاحقًا في جولة ثانية لاستكمال ما تمَّ التفاهم عليه.

 بعد الانتخابات التشريعة في يناير 2006 وفوز حركة حماس بالأغلبية،
بعد تشكيل الحكومة، جمعتني به جلسة طويلة في منزلي بمنطقة تل السلطان، كان لقاءً صريحًا وهادئًا، وجدتُ فيه حِسّاً وحرصًا وطنيًا صادقًا، ورغبة حقيقية في فتح صفحة جديدة من الانفتاح والتعاون مع حركة حماس، تنطلق من الشعور بالمسؤولية، واستشعار حجم التحديات التي تواجه شعبنا.

في القاهرة 2011: محاولة  فلسطينية للمّ الشمل

من اللقاءات المهمة التي لا أنساها كذلك،  ما جرى بيننا في القاهرة عام 2011، حيث اجتمعت معظم فصائل العمل الوطني والإسلامي في سياق التفاهم حول تشكيل حكومة توافق وطني، وتعزيز صمود الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال. 
في ظلال تلك الاجتماعات، جمعنا غداء عمل في بيته بالقاهرة، وتبادلنا الحديث حول توقعاته لمخرجات هذه التفاهمات ومدى جدية الطرفين، فتح وحماس.
أجابني بصراحة: “يا أخ أحمد.. إنهما -للاسف- “يتكاذبان!”
لم يكن دحلان متفائلًا آنذاك، بل عبّر لي عن قناعته بأن الطرفين غير صادقين، وأن كل طرف يُبطن ما لا يُظهر. وقد شكّك – تحديدًا – في جدية الرئيس محمود عباس في المضي قدمًا نحو مصالحة حقيقية.
كانت رؤيته واقعية، إن لم تكن صادمة. لكن للأسف، أثبتت السنوات اللاحقة كثيرًا مما كان يتوقعه.

في عام 2014، التقى وفد حركة حماس في القاهرة، وكان من بين أبرز أعضائه يحيى السنوار، والقيادي العسكري مروان عيسى (رحمهما الله) واللواء توفيق أبو نعيم.

 جاءت هذه اللقاءات وبهذا المستوى، ضمن محاولات جادة لكسر الجمود السياسي وفتح نوافذ الحوار، وكانت الانطباعات في مجملها إيجابية، وتدل على وجود رغبة مشتركة في إعادة تقويم العلاقات الوطنية، وهذا ما أعطى مساحة للتعاون والتنسيق الأوثق بين الإخوة في حماس وتيار فتح الإصلاحي.

في عام 2024، التقى دحلان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشهيد إسماعيل هنية، في العاصمة القطرية الدوحة، في لقاء أضفى انطباعًا جيدًا، وعكس توجّهًا وطنيًا للتقارب وتجاوز الخلافات في ظلّ تصاعد التهديدات التي تتعرض لها القضية الفلسطينية.

في الإمارات: دعم للمبادرات الإنسانية والاجتماعية

في أبو ظبي،  حيث مقر إقامته الدائمة، جمعتني به لقاءات متعددة، وخلالها رأيت أمامي شخصية وطنية تنضج أكثر، وتتحرر من خطاب الشعارات، وتفكّر في السياسة بمنطق الدولة والمستقبل. وجدته صاحب قرار، وصاحب مشروع، وصاحب رؤية، لا يمكن إنكارها أو تجاوزها.

في عام ٢٠٠٩، شكلنا كصف وطني جامع “جمعية التكافل الاجتماعي” من إخوة من فتح التيار الإصلاحي وحركة حماس، وتوجهنا إلى دولة الإمارات. التقينا الأخ محمد دحلان (بو فادي) في أبو ظبي،  كوفد “لجنة التكافل الاجتماعي”، وكان الرجل كريمًا في استقباله، وسخّر لنا كلَّ التسهيلات الممكنة للوصول إلى الجهات الخيرية والإغاثية الرسمية، بما يخدم رسالتنا الإنسانية؛ من توفير منح دراسية ورسوم جامعية للطلاب، إلى مشاريع زواج للخريجين، إلى برامج إغاثية للفقراء وتثبيت بقاء الناس في أرضهم.

وقد دعم دحلان بجهد مشكور  تأسيس “جمعية التكافل الاجتماعي”، وأثنى على مشاريعها كحاضنة وطنية وإنسانية، تهدف إلى مساعدة الشباب على بدء حياتهم، وخلق مناخ من الأمل والاستقرار في مجتمع اللاجئين. 
كما ساند جهود تأسيس اللجنة الوطنية للشراكة والتنمية برئاسة د. أسامة الفرا، في 18 سبتمبر 2023، في إعلان مشترك من فصائل فلسطينية وطنية، بغرض 
 تعزيز الشراكة الوطنية وتمكين المجتمع في مواجهة آثار الحصار والانقسام.

وقد ساهمت المنابر الإعلامية التي يشرف عليها “تيار فتح الإصلاحي الديمقراطي” كقناة الكوفية، في تقديم خطاب وطني يجمع ولا يفرّق، ويسعى لفتح نوافذ الأمل لأبناء شعبنا، خصوصًا في مثل هذه الظروف الحالكة.

لقاء الكتاب المؤجّل….

قبل اندلاع الحرب الأخيرة على قطاع غزة بيومين فقط، كنتُ في زيارة له بالإمارات لاستكمال مشروعي الكتابي الذي حمل عنوان: “رغم الخصومة.. دحلان كما عرفته”، وهو كتاب أردت من خلاله تسليط الضوء على مسارات حياته، بما لها وما عليها، دون أن أبخسه حقّه في بعض المواقف الوطنية والإنسانية. لكن اندلاع الحرب وما تبعها من مآسٍ نازفة، علّق فكرة النشر مؤقتًا.

دحلان اليوم: إنسان بقامة رجل دولة

أستطيع القول – وبثقة – إن محمد دحلان بات اليوم في نضجه السياسي وإنسانيته  رجل دولة. 
وفي سياق ما هو متوقع من سيناريوهات تخصّ مرحلة ما بعد الحرب، أو ترتيبات المرحلة الانتقالية القادمة أو ما يسمى باليوم التالي، فإن دحلان – رغم جدل بعض الأصوات – سيكون من الشخصيات التي يمكن التعويل عليها، سواء في إعادة إعمار غزة، أو في تأهيل الحياة السياسية الفلسطينية برؤية أكثر نضجًا واتساعًا.

نعم، قد نختلف سياسيًا، وقد تكون لنا اجتهادات متباينة، لكن تبقى الوقائع أصدق من الأحكام المسبقة.
وقد علّمتنا التجربة أن معادن الرجال لا تظهر إلا في أوقات الشدة، وأن من يثبت وقت الانهيار، ويقف إلى جانب شعبه بصمتٍ وإخلاص، يستحق الاحترام، بل وربما التعويل عليه في لحظات الخلاص وإعادة البناء.

اليوم، محمد دحلان لا يشغل نفسه كثيراً بأحاديث السياسة أو رهانات ما بعد الحرب، بل يعمل بإخلاص في الميدان الإغاثي والإنساني، واضعًا نصب عينيه كرامة الناس، وتوفير أسباب الحياة لهم.

شهادة للتاريخ.. 

لا أنكر أن بعض الأصدقاء يراجعونني فيما أكتب عن دحلان، ويعتبون عليّ، مذكّرين إياي بما حصل في أوائل الثمانينيات من مواجهات طلابية في الجامعة الإسلامية، حين كان دحلان أحد متصدّري الشبيبة الفتحاوية في مواجهة شباب المُجمع الإسلامي. ولأمانة الشهادة، لم يكن أي طرف بريئًا من تلك الأحداث. 
وهناك أيضاً من يعيد التذكير باعتقالات عام 1996، وما صاحبها من تجاوزات بحقّ شباب حماس، وأحداث يونيو 2007 الدامية.

من وجهة نظري، كانت تلك الأحداث جزءًا من الحصاد المرّ لتنافس القوى على السلطة، وهي أمور تتكرر في تجارب الشعوب، لكن للحكماء دومًا كلمتهم.
 وفي المقابل، ينسى البعض أننا تجاوزنا تلك المرحلة، وتصالحنا، واجتمعنا لاحقًا في مواقف وطنية مشتركة، وكان خلافنا الأكبر مع إدارة الرئيس محمود عباس للملف الوطني.

وأتمنى اليوم أن يتفهّم الجميع دلالة المقولة السياسية المعروفة:
“في السياسة، ليست هناك صداقات دائمة أو خصومات دائمة، ولكن هناك مصالح دائمة.”
ختاماً.. قد يكون الآوان قد فات للتفكير والتحليل لصعوبة الاستدراك، ولكن قد يفاجئنا القدر بما لم نحتسب.
إن دحلان الذي اختلف معه البعض في مشهدية السياسة، هو نفس دحلان الذي نجتمع حوله في مشهدية العمل الإغاثي الإنساني، وهو ما يتطلب منا في ميزان الإنصاف وقول الحق الالتزام بمسطرة القياس واعتماد آلية
“اعدلوا هو أقرب للتقوى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى