زياد الرحباني الذي يغادرنا! – سما الإخبارية

عندما قرّر سيّد الكلام محمود درويش أن تُجرى له عملية جراحية، كان يعرف أنها تنطوي على درجة ما من الخطورة، بل وعلى درجة عالية منها.
والسبب في هذا الإقدام هو أن شاعرنا العظيم لم يكن مستعداً للعيش مع قلق احتمال الموت في أيّ لحظة، ولم يحتمل الانتظار أكثر بقنبلة موقوتة تدقّ ساعتها بداخله.
رأى في ذلك أهون الشرَّين، وراهن على فسحة الأمل، ولكنه رفض الارتهان لدقّات ساعة القنبلة الموقوتة.
زياد الرحباني، سيّد الفنّ الأوّل، وسيّد الالتزام بالفنّ المنتمي إلى الناس وفقرائهم، غادرنا من على نفس هذه الحقيقة.
لم يشأ أن يخوض مغامرة زراعة الكبد لكي ينجو ويرى ما حلّ بالشعوب العربية، وشعبه اللبناني وبالشعب الفلسطيني من دمار وكوارث في زمن الخذلان والخضوع لإرادة «الأميركان»، اختار المغادرة والرحيل، وفضّل الغياب لكي لا يرى بلاده، بلاد الشام وقد غزاها «الجولانيون» للبدء في حروب الطوائف وحروب ملوك الطوائف الجدد، وهم يبايعون سادة الغزاة على نسف القلاع الشامية من أساساتها.
عندما يكون القلق على هذه الدرجة من المصيرية، يكون القرار عند العظماء والعباقرة هو الحسم.
وإذا دقّقنا قليلاً بمقولة: إنه «لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة»، سنكتشف أنها تجسّد في فهمها وإدراكها الأعمق الحالة «الدرويشية» و»الزيادية» أكبر وأعلى تجسيد.
وفعلاً ما قيمة الحياة إذا كانت مجرّد انتظار قاتل، وقلق لا يتبدّد؟ واليأس هنا هو درجة القلق، وفعلاً لا يأس مع الحياة إذا كانت حياة مرغوبة، حياة حقيقية، وليست مجرّد بقاء مع هذا القلق القاتل.
الرحباني أحد عباقرة الموسيقى العربية في نسختها الملتزمة، والمكرّسة لأوجاع البلاد والعباد، الهادفة لتكسير مقاييس تقليدية كبّلت الفن الموسيقي في أُطر لم تكن دائماً على صلة وثيقة بمسألة الارتقاء بالوعي الوطني، والوعي الاجتماعي، مع أن بعض هذه الأعمال الموسيقية ارتقى بالوعي الوجداني، وحافظ على درجة عالية من الذائقة الموسيقية، مقابل كم هائل من الأعمال.
بعض الأعمال القديمة كان ينطوي على درجات عليا من الحداثة والتجديد، وبعض الأعمال الحديثة لا تمتّ للحداثة والتجديد بأي صلة. ويكاد يُجمِع الموسيقيون العرب على أن الرحباني من هذه الزاوية تحديداً هو ظاهرة موسيقية عبقرية قد توازي ظاهرة العبقري الآخر من التاريخ الحديث للموسيقى العربية، والتي مثّلها سيّد درويش.
ويلاحظ هنا، إضافةً إلى السمات العبقرية بين الظاهرتين، ظاهرة زياد الرحباني وظاهرة سيّد درويش أنهما قد تميّزتا بالالتزام والانتماء لعامة الناس، الناس من بسطاء الكادحين والفلّاحين والصنّاع والحرفيّين.
لنتذكّر هنا أغنية الحلوة دي عن التي [قامت تعجن في البدرية، والأسطة عطية، الصناعية، ويلّي معاك المال، برضه الفقير له ربّ كريم، والصبر الطيّب]، ونتذكّر بالمقابل أغنية «اسمع يا رضا»، وكذلك أغنية «مَربى الدلال» اللتان تحملان نفس الدلالات ونفس الروحية، ونفس درجة الالتزام والانتماء.
وإذا كان سيّد درويش قد انشغل على طريقته الخاصة بالبعد الوطني، فقد تفوّق الرحباني بالبعد الطائفي الذي دمّر النسيج الوطني والاجتماعي على حدّ سواء، خصوصاً في مرحلة الحرب الأهلية في لبنان، إضافةً إلى انحيازه الذي لا لبس فيه لمشروع المقاومة وتعلّقه بشخص الأمين العام لـ»حزب الله» اللبناني الأسبق حسن نصر الله، حتى ذكر من عدّة مصادر موثوقة أن الرحباني قد أُصيب بنكسة نفسية بعد اغتيال نصر الله من شدّة تعلّقه به.
وفي المسرح تفوّق الرحباني بصورة استثنائية، ليس فقط لأنه سيّس هذا المسرح بصورة رشيقة ولكنها لاذعة تجاوزت وبدرجات مسرح «الإضحاك» حتى أوصلها إلى حجم الكوميديا الهادفة التي تنهل من أعماق البُنى الاجتماعية، والتي كرّسها الاستعمار «وسيّدها» على المجتمعات العربية في توليفات عرقية ومذهبية وطائفية بغيضة.
استطاع الرحباني أن يؤرّخ الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية عَبر مسرحياته، وأن يشرّحها بمبضع الجرّاح الماهر بالغوص إلى أعماق الوعي الاجتماعي الذي كرّسته هذه البنى الخاصة.
في مسرحية «نزل السرور» تناول الرحباني مقدمات الحرب الأهلية الأولى وبداياتها من خلال شخصياته التي اختارها بعناية تفوق كل تصور وتوقع. شخصية الثوري الديماغوجي المزاود على الوعي العام، وهي شخصية متفذلكة وانتهازية «رؤوف»، واختار شخصية المستخدم المقهور الرّازح تحت السحق الذي تمارسه الطبقات المستحوذة على الثروة والجاه، وتمثّلت في شخصية بركات وأيسر اللذين كانا يعملان في مجال الموسيقى، ويقدمان الوصلات الموسيقية في «النوادي الليلية» مقابل 110 ليرات، وكذلك شخصية «زكريا» اللامبالية واللامنتمية، والساذجة والمهدورة الكرامة كلّياً.
وانتهت المسرحية بتواطؤ وخيانة الثوريين والهروب إلى الملاذ الفردي الخاص بعد أن كانا «فهد وعبّاس» قد طرحا مشروع بداية الثورة من «نزل السرور» وبمشاركة النزلاء أنفسهم، أو انتظار موتهم فجر وصبيحة تلك الليلة التي قرّرا فيها اقتحام «نزل السرور» والاستيلاء عليه لتفجير الثورة المنشودة.
وفي مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» رصد الرحباني استفحال الحالة الاجتماعية والمعيشية واضطرار سكّان الجبل للنزول إلى بيروت، وبيع الجسد «ثُريا» برضا ضمني من زوجها «زكريا» وبتواطؤ مباشر من طبقة المستغلّين الذين حوّلوا لبنان إلى «منتجع سياحي» قائم على اللهو والدعارة واستثمار أموال السياحة الخليجية والأجنبية ممثلةً بشخصيتَي «مسيو عدنان»، و»مسيو أنطوان».
في هذه المسرحية يرصد الرحباني مرحلة كاملة من الضياع الذي غرق فيها لبنان قبل اندلاع الحرب الأهلية، التي تداخل فيها البعد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مع العوامل الخاصة.
أما مسرحية «فيلم أميركي طويل» فهي أعظم مسرحية سياسية واجتماعية شهدها المسرح العربي كلّه، وقد كنت محظوظاً بمشاهدتها في عرضها الأوّل ــ وهي كما أرى جسّدت عبقرية نادرة وغير مسبوقة في المسألة الطائفية المتجذّرة، والمقاربة في أعمق أعماق التاريخ السياسي والاقتصادي للبنان.
في هذه المسرحية، والتي ستظلّ خالدةً كما أرى، يرصد الرحباني سياق الحرب الأهلية بأبعادها مجتمعة ومتفاعلة ومتداخلة مع عنصر التفجير الطائفي.
مستشفى الأمراض العقلية الذي دارت فيه أحداث المسرحية كان المختبر الذي عالج فيه الرحباني أحداث الحرب الأهلية من زاوية رؤية الدولة والرسميات السياسية المتربّعة على رأس الإقطاعيات السياسية، ومن زاوية أحزاب الحركة الوطنية المتحالفة مع المنظمات الفلسطينية في لبنان.
هنا «اكتشف» الرحباني «عُقم» المراهنات على تغيير الوعي الوطني والاجتماعي، وبدء «الاستثمار» الاجتماعي للحرب لصالح تكريس أمراء الطوائف الجدد، وطبقة أغنياء جديدة تمثّلت بشخص «أبو الجواهر» الذي كان ثورياً وانقلب رأساً على عقب، ومحاولة تخدير الشعب اللبناني بالحديث عن «مؤامرة» ليس واضحاً فيها من الفاعل، ومن المفعول به، وما هي حقيقة الفعل نفسه.
الطبيب فوّاز، والممرّضة عايدة، يقومان بدور القائمين على التخدير ودور «رشيد» وهو الرحباني نفسه الذي ورغم كل محاولات «علاجه» بالأدوية إلّا أنّه يتمرّد على المعالجة، ويكشف خطّة العلاج التي تهدف إلى دفن الأسباب الحقيقية للأزمة، بل وبلغت به الشجاعة أن يفضح بصورة تدعو إلى أعلى درجات الإعجاب والزيف والنفاق السياسي والاجتماعي في لبنان من خلال معادلة وسؤال: هل يوجد 160%؟ أي أن الـ 80% الذين كانوا يطالبون بلبنان جديد هم أنفسهم الذين يعيقون بناء لبنان جديد، ولا يوجد 80% غيرهم.
هنا تجلّت عبقرية الرحباني السياسية، وهنا كشف الجذور الاجتماعية والطبقية للطائفية، وهنا فنّد كلّ ما كان يُشاع حول الارتقاء بالوعي السياسي والوطني والاجتماعي في بلده.
الرحباني الذي يغادرنا هو واحد من عباقرة الأمّة كلّها، وهو سيعود إلينا بقدر ما نتمكّن ــ والحديث موجّه إلى كلّ عربي، وإلى شعوبنا في بلاد الشام، خصوصاً ما نعود إليه، وبقدر ما نُحسن تقدير عبقريته. فهو خبير سياسي وفنّان وكاتب وموسيقار، وممثّل مسرحي، وثوري ومتطهّر وملتزم ومنتمٍ ومنحاز وشجاع، ولا يخشى في قول الحقّ لومة لائم في شخصية واحدة.