زيارة ترامب … هامش ومراكز …! أكرم عطا الله

لا يحتاج الأمر للكثير من التفسير لمعرفة مدى هامشية الملف الفلسطيني، وسط زحمة أحداث المنطقة التي تتطاير فيها التريليونات التي تتجاوز في عرف العالم الحديث ومعاييره المستجدة حجم اللحم المتطاير في غزة. ولم يكف ما سال من الدم ليستدعي وقفاً فورياً لمأساة تنزف وينزف معها التاريخ العربي والعالمي من مخزونه الأخلاقي حد الانكشاف.
كانت زيارة الرئيس الأميركي القادم من بعيد جغرافياً ومعرفياً وحضارياً من وراء المحيط، ومن وراء السياسات التقليدية وأعمدتها مجرد زيارة اقتصادية عقارية سجلت فيها واشنطن نجاحاً باهراً بصفقات هو سيد صناعتها، منذ أن أعلن في خطاب التنصيب عن عودة الزمن الأميركي المخضب بالمال، والمفتوح على كل الاحتمالات والطرق التي تؤدي إليه بلا ضوابط. فالزمن تغير والسياسة تنتقل بقفزات انتحارية من قادة الفكر لقادة الأمن، ثم تهبط لقادة المال والشركات، وحينها يمكن لنا أن نفهم في هكذا مناخات أن قطرة النفط أغلى كثيراً من قطرة الدم، وأن الشركة تحكم أكثر من المؤسسة، وأن لوبيهات المال أكثر قدرة من لوبيهات السياسة، والنتيجة أن لغة المصالح أعلى صوتاً من لغة المبادئ.
منذ عقود كان الصراع الخافت في الوطن العربي يدور من وراء جدران عالية على الزعامة والريادة التي كانت بحكم عوامل التاريخ والجغرافيا تتركز في عواصم مركزية نشأت حضاراتها على ضفاف الأنهار القاهرة ودمشق وبغداد، ولكن في العقود الاخيرة عندما تكدس رأس المال العربي في الصحراء بعيداً عن الأنهار خرج هذا الصراع للعلن، حين انفتحت شهية الخليج لنقل القرار السياسي في عواصمها. كانت زيارة الرئيس ترامب الاقتصادية الكبيرة تحمل قدراً من تتويج الخليج زعيماً للمنطقة، كان أكثر تعبير عنها أن تتكفل الرياض برعاية دمشق كوليد صغير بحاجة لمن يأخذ بيده بعد أن كانت عاصمة مركزية يحسب لها ألف حساب.
ما بين إعادة توزيع القوة في الإقليم حضور عواصم وغياب عواصم، وبين هامشية القضية الفلسطينية التي تجنبت الأطراف التوقف عندها لأن مطالبها أكبر من إمكانيات الرئيس الأميركي على دفعها. فالسعودية تطالب بدولة فلسطينية، وتلك خارج طاقة الرئيس غير المسكون بالسياسة والذي يتلاشى عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وخصوصاً أن الدولة بمجملها انتقلت لليمين وتعاهدت بتسعين عضو كنيست على رفض الدولة الفلسطينية، أما ان يطالب ترامب السعودية بالتطبيع، وهذا الأمر بات يتعارض مع طموحات الدولة بالريادة في الإقليم، فالسعودية تطمح لقيادة المنطقة وتدرك قيادتها أن واحداً من شروط الريادة التمسك بالحقوق الفلسطينية والإصرار عليها، فنشأ ما يشبه التوافق بلا اتفاق على ضرورة تنحية الملف حتى لا يعكر صفو الصفقات والأموال التي يحتاجها الاقتصاد الاميركي.
زيارة ناجحة بامتياز لكل أطرافها، فقد حصلت تلك الاطراف على ما تبحث عنه، فقد حصل الخليج على الدور والزعامة، وحصلت أميركا على الاموال، وظلت الدول التي فشلت في إدارة نفسها وتعلقت بحلول تهبط عليها من السماء أو تعلقت بلقاءات دول وزعماء غيرها على هامش التاريخ الذي لا ينتظر ولا يرحم، في هذه الزيارة انكمش الفلسطيني الذي ملأ الدنيا ضجيجاً، فقد تجاوزته الأحداث وربما كان بحاجة لمن يذكره بأن لا حلول من الخارج، وأن ما سيسعف الفلسطيني هو الفلسطيني، وأن عليه أن يجلد ذاته حتى التورم لأنه كان المساهم الأكبر نتاج فائض الجهل الذي أديرت به القضية، لتصل إلى هذه الدرجة من البؤس المغمس بدم ونتاج الإدارات الطائشة والسياسات الطائشة والمغامرات الطائشة.
لم يتم إعادة توزيع القوة على مستوى المنطقة فقط، والتي أيضاً في عالم المال تعود إسرائيل لحجمها الحقيقي مثقلة بصورة متوحشة تتجسد يومياً في غزة بما ترتكبه من إبادة، ففي عالم المال والشركات لا مجال لدولة، لا يعطي التاريخ كثيراً لدولة تعتاش على رعاية الدولة الكبرى، وهذا ما أظهرته حركة الأسابيع الأخيرة من سلوك الرئيس الأميركي الذي يعاني من فائض قوة، وتلك ربما تعطي ما يكفي من القوة للخليج الصاعد إذا اراد استثمار اللحظة وتكريس زعامة تبقى ناقصة دون فلسطين، فقد جاء الرئيس الأميركي ليطلب ما كان ينبغي أن يدفع فواتيره، ففي السياسة ليس هناك شيء بالمجان إلا لدى البسطاء.
فقد كان توزيعاً للقوة أيضاً على مستوى العالم وإراداته بين أموال الخليج وترسانة واشنطن وأذرع التنين الصيني الذي يزحف بلا توقف مسابقاً الزمن ومصارعاً، هكذا بدا العالم في لحظة وهنت فيها دول القوميات، وغابت أوروبا عن المشهد وهي تجر نفسها بتثاقل في الشرق الأوكراني وفي فضاء عواصمها.
على الفلسطينيين أن يقفوا طويلاً أمام حساب الضمير بما فعلوه بأنفسهم وبقضيتهم وبشعبهم الذي أثخنوه بما امتلكوا من قوة وجهل، وعلى فشلهم في امتحان الجدارة، وعلى حركة حماس أن تتوقف أمام إدارتها للسياسة وما فعلته لغزة وبغزة من سنوات طويلة، بدءاً من طرد السلطة والتسبب بانقسام أنتج حالة كاريكاتورية أفقدت الفلسطينيين هيبتهم وقوتهم الناعمة واحترامهم، وصولاً لمغامرة السابع من أكتوبر التي قصمت ظهر القضية، ليفقد الفلسطيني كل ممكنات قوته، ويتحول إلى متسول للطعام ومتوسل للسياسة على قارعة التاريخ، منتظراً من يذكره في قمم المال والصفقات في حالة يُتْم تسبب لنفسه بها عندما قتل أمه وأباه وهو يصارع على الوراثة.
هكذا هو التاريخ لا يحمي الضعفاء، بل ويزيح عن طريقه المصابين بالكساح، وأهمه المصابون بالكساح العقلي ونحن الفلسطينيين نموذج لهذا.