اخبار

زيلينسكي .. نموذج كفاءة الفساد وكفاءة الجهل ..!

جزء من قراءات التاريخ الطويلة يتوقف عند شخصياته، فهذه كان لها الدور الأبرز في صناعة أحداثه ومساراته.

تطور الدول أو انهيارها عادة ما ارتبط بمن ساقته الأقدار ليملك مفاتيح القرار.

كان للمغامرين دور في دمار الكثير من الشعوب، وكان للأذكياء بصمة في الاستقرار والازدهار، فما بين مغامرة هتلر وجنون عظمته ودمار البلاد وبين شخصية مثل الدكتور مهاتير محمد الذي ضمد جراح ماليزيا كلمة السر في الفشل والنجاح.

زيلينسكي الممثل الذي ساقته أقدار بلد أوروبي لقيادته يصلح نموذجاً لأزمة الإدارة،  ليس فقط على صعيد إدارة البلاد المدنية بل وأيضاً إدارة صراعاتها مع دولة قوية مثل روسيا.

إذ تصلح إدارته لإعطاء نموذج فريد لكفاءة الفساد في دولة شديدة الثراء بما تملكه من إمكانيات صناعية وزراعية وبالمعادن الثمينة وبالرجال وبين مستوى دخل الفرد شديد الفقر.

هنا يتضح مفهوم القيادة الحقيقي والذي قدمت الولايات المتحدة حلاً أكثر دقة له حيث تسمى الإدارة الأميركية وليس الزعامة أو فخامة الملكية أو شيئاً من هذا الذي تعيشه دول العالم الثالث.

ولكن الأسوأ عندما تكون قيادات بهذا الفقر السياسي تقود صراعات دموية وتتعثر في قدرتها على إدارتها لتُدخل البلاد والعباد في أتون معارك خاسرة وهذا حدث في التاريخ أيضاً.

يقدم زيلينسكي نموذجه الفريد مدعاة للدراسة، فوقوفه أول من أمس بين يدي الرئيس الأميركي الجامح يعيد للذاكرة قبل ثلاث سنوات تماماً عندما بدأت الحرب مع روسيا، وما الذي دعا هذا الرجل لأن يصعد على شجرة الصدام مع دولة نووية أرسلت ما يكفي من الإشارات التي لم يقرأها ليجد نفسه عالقاً أمام لحظة فارقة تتخلى عنه الدولة التي دفعته للحرب بل وحرضته على عدم قبول أي مبادرة ورفض التوصل لحلول كان يمكن أن تعفي دولته من الخسارات الفادحة.

يصلح زيلينسكي نموذجاً لدراسة القادة الذين لا يعرفون مصالح بلادهم، أو يرهنونها لإرادات الخارج نموذجاً لقياس الأهلية في العمل السياسي التي تنبه لها اليونانيون مبكراً ليقرروا اختبارات ذكاء للذين يصلحون للعمل السياسي، باعتبارها أكثر المهن حساسية وتتعلق بمصائر البشر ودمهم ودموعهم وآلامهم، يجب ألا يتم تسليمها بيد أنصاف الأذكياء والجهلة لأن السياسة عملية حسابات معقدة لا يجيدها سطحيون يوزعون ابتسامات، وهذه أزمة الانتخابات التي لا تفرز الأكثر ذكاء بل الأكثر قدرة على خداع الجماهير كما يقول غوستاف لوبون الذي غاص عميقاً في كتابه «سيكولوجية الجماهير» التي أمعن في فهمها.

هناك ما يتوقف عنده الكاتب المرحوم محمد حسنين هيكل الرجل الأكثر كفاءة في قراءة التاريخ وتحولاته ومعاركه في المنطقة العربية، والذي كان يتوقف كثيراً عند مصطلح «اللحظة التاريخية» وهي عملية اتخاذ القرار الصحيح في لحظة معينة يجب ألا تتقدم أو تتأخر، فحين تتأخر تكون قد أفلتت نحو الخسارة.

لم يحسب زيلينسكي ماذا يعني دخول بلاده للحرب مع روسيا حتى لو وقف العالم خلفه، فروسيا دولة تحت حكم الفرد تغيب فيها المؤسسة وقد قال رئيسها إن بلده «لن ينهزم ولا عالم دون روسيا».

أي أنها إذا شارفت على الهزيمة ستستخدم سلاح يوم القيامة، وقد أجرى ما يكفي من المناورات لهذا السلاح.

كان يجب أن يبدأ الرئيس الأوكراني مفاوضات مع الدولة الجارة قبل أن تبدأ الحرب، ولكن جهل الحسابات بموازين القوى ينتهي به لأن يجلس صاغراً بين يدي رئيس أميركي جامح.

بعد أسابيع من الحرب في نيسان 2022 تدخلت تركيا بوساطة بين روسيا وأوكرانيا محتضنة مفاوضات بين الطرفين. وتلك كانت لحظة ثانية لم يلتقطها زيلينسكي أيضاً بل أضاعها سواء لجهة الانتصار غير الممكن أو لجهة الانصياع لتعليمات خارجية كانت تزوده بالمال والسلاح، لكن حقيقة الحرب كانت على أرضه واقتصاده، وقودها رجاله وشبابه وشعبه البائس والمتخم بفساد الإدارة دون أن يتوقف أمام مصالح بلاده لتذهب الحرب نحو نهاية تشكل كابوساً لشعب أوكرانيا.

سيضطر للتفاوض من موقف ضعف بفعل الغضب الأميركي والقرار الأميركي، وتسديد ديون الحرب التي بلغت 350 مليار دولار للولايات المتحدة وحدها وهنا المساومة على المعادن الثمينة واحتياطات البلاد الإستراتيجية للأجيال القادمة.

إدارة الصراعات أكثر تعقيداً من التبسيط الذي مارسه كثير من زعامات التاريخ التي غمرته بالدم والدموع، وتركت ما يكفي من الندوب على وجهه حين صارعت على الحكم معتقدة أن قيادة الشعوب عملية من عاديات المهام.

فالقرار عادة هو وليد حسابات القوة وممكناتها وحسابات العلاقات والاقتصاد والعلم  وقوة المجتمع، والأهم مناخها السياسي الذي يتخذ به والكثير الكثير من الجزئيات التي ينبغي خلطها جميعاً بشكل معقد لتنتج القرار الذي يجب ألا يحتمل الخطأ.

وهنا الفرق بين الهواة والمجربين، بين الأذكياء وأنصاف الأذكياء، فالتاريخ من لحم ودم وهو المعمل الهائل الذي تجسدت فيه التجارب الإنسانية وحين أدارها الهواة في معامله كانت الانفجارات والحرائق التي أحرقت أصابع العاملين قبل غيرهم عكس قادة التاريخ الراشدين الذين صنعوا المعجزات، وزيلينسكي ليس واحداً منهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى