سوريا القديمة اختفت.. لكن سوريا الجديدة لم تولد…
سوريا القديمة اختفت، لكن سوريا الجديدة لم تولد، اتفق مع هذا التوصيف للواقع السوري بعد سقوط النظام، وهو توصيف لرئيسة المفوضية الأوروبية ” “اورسولا فون دير لاين”. عندما ينهار النظام ويفر الرئيس الذي يجمع بيده السلطات كافة، يصبح من الماضي، وما يهم الراي العام حوله معرفة الاسرار والكواليس لأسباب الانهيار والادوار وحكايات عن ممارساته وملفات كانت مخفيه في ادراجه واسرار قد تنكشف، هذا ما يشبع الفضول حول نظام حكم سورية لأكثر من نصف قرن فيها الكثير من الخفايا والاحداث.
الأكثر أهمية هو الواقع والمستقبل، سورية الجديدة فعليا لم تولد بعد، ومرحلة استقرار الحكم وشكله وهويته لم تحدد وتحتاج الى مسار شاق وطريق لن يكون معبدا وسهلا. المرحلة الانتقالية الحالية فيها جوانب باعثة للأمل بالنسبة للشعب السوري، وفيها أخطاء منذ البداية ومؤشرات تدعو للقلق. وبين الامل والقلق تبدو المرحلة الراهنة ضبابية الى حد كبير.
جملة الاجراءات عمل عليها الحكم الجديد الانتقالي المتمثل “بهيئة تحرير الشام ” وزعيمها الشرع حتى الان في سورية والتي تبعث التفاؤل لدى الشعب السوري، تتلخص في التالي : تجريم الانتقام، وتجريم الطائفية، والعمل على التواصل مع كل مكونات الشعب السوري، والتأكيد على مسألة انتقال النهج من عقلية الثورة الى لغة الدولة، فتح البلاد امام المؤسسات الإعلامية والصحافة العربية والعالمية، الاتجاه فورا نحو إعادة عمل وانتظام مؤسسات الدولة، دعوة جميع السوريين للعودة الى بلادهم لبنائها بدون أي تمييز، والعفو العام عن كامل افراد وضباط الجيش الذين لم تثبت عليهم مشاركة في انتهاكات ضد افراد من الشعب، والتأكيد على العدالة الانتقالية وفق القانون. عدم انتهاج مسار عدائي مع أيا من دول الجوار او الدول العربية والإقليمية، وفتح باب الحوار مع كل الدول، والتأكيد على مسألة حقوق الانسان والحريات السياسية والفردية، واحترام خصوصية الأديان والطوائف والمذاهب. وعدم المس مقدساتهم والاهم الخدمات العامة ومساعدة الشعب على ظروف الحياة القاسية، والاحساس بالمعاناة وضنك العيش والمعالجة السريعة اعلان رفع المرتبات وضبط سعر العملة وغيرها من الإجراءات.
وهذا شجع دولا كثيرة غربية وعربية على فتح أبواب الاتصال مع الحكم الجديد، وارسال وفود الى العاصمة دمشق لاستكشاف مدى جدية تطبيقها. هذه الإجراءات تبدو كافية الان للقول ان سورية الجديدة التي هي في طور الولادة قد تكون نموذجا جاذبا يبزغ في منطقتنا العربية، وان رحلة شقاء الشعب السوري في داخل البلاد وخارجها توشك على النهاية وهذا ما نتنماه ونطمح اليه. لان سورية درة هذا الشرق، وقلب العالم العربي، ومنها انطلق العصر الذهبي للعرب عبر التاريخين القديم والمعاصر.
لكن رغم ذلك تبرز شوائب ومؤشرات تعكر هذا المسار وتفسح مجالا للشك في وصول سورية الى بر الأمان المنشود، مما يمكن تسجيله من ملاحظات خلال الأيام الماضية التالي:
ـ أولا: الحكومة الانتقالية وطريقة تشكلها وهويتها، واضح ان هيئة تحرير الشام وزعت المناصب الحقائب الوزارية على اتباعها حسب الولاء وليس الكفاءة، لم تحظ الحكومة الانتقالية قبل تشكيلها بالتشاركية او الحوار مع المكونات او التيارات او الشخصيات السياسية او الكفاءات السورية، حكومة ذات لون واحد، منحصرة بالاتباع والأعضاء في الهيئة وزعت بطريقة المكافآت والمنح والغنائم، دون مراعاة شرائح واسعة من الشعب او القوى والتيارات الموجودة في سورية او خارجها، ووجود تكنوقراط أصحاب خبرات ودراية وإلمام بالواقع. وهذه بداية غير مشجعة، وقد تنطوي لاحقا على نزعة بالاستئثار بالمناصب الهامة وبروز ثقافة الاقصاء.
ـ ثانيا: الانتهاكات التي تحصل في بعض المناطق، والتي ترجعها الهيئة عادة الى تصرفات فردية، وتتبرأ منها، وتحض على عدم تكرارها وهذا امر جيد، لكن مع ارتفاع نسبة هذه الانتهاكات خاصة في مناطق وارياف الطائفة العلوية، وانتشار مشاهد وفيديوهات يصورها عادة الفاعلون بأنفسهم، لعمليات قتل وسحل وتعذيب واهانات لفظية وجسدية، كلها مؤشرات سلبية، تدل اما على ان الشرع لا يسيطر على كافة القوى المسلحة على الأرض، وهذا نذير خطر مستقبلا، او ان الحكم الجديد سيعتمد التمييز الطائفي وبالتالي سيكرر سلبيات وممارسات النظام السابق، وسيسقط في ذات الأخطاء والخطايا. والأخطر هو انتشار ظاهرة اخذ الثأر باليد وبالسلاح، وهذا يقوض دولة القانون والعدالة. لان من ارتكب جرما او انتهاك ضد الشعب مكانه الطبيعي امام القضاء والقانون ليحكم عليه بما فعل، والا فان دائرة العنف وفوضى السلاح ستكون هي المقرر لمستقبل البلاد والعباد.
ـ ثالثا: الموقف من إسرائيل واحتلالها مزيدا من الأراضي السورية، ورفعها من وتيرة القصف واتساع نطاق عدوانها، هذا لا يصح تجاهله، تحت عنوان اننا الان نريد التركيز على الانتقال الداخلي وإدارة الحكم، يجب ان يكون هناك موقف صارم وواضح، خاصة مع الوفود الغربية الأوروبية التي بدأت تتقاطر نحو دمشق، وكذلك مع الشركاء الإقليميين في مقدمتهم تركية وقطر، والتواصل مع الدول العربية لوضع حد لهذا العدوان، ان مقولة ان النظام السابق لم يكن يرد على الغارات الإسرائيلية تبرير طفولي وغير مسؤول. خاصة ان الحكم الجديد يطرح نفسه كنقيض للنظام السابق.
بين الصورتين والمشهدين إيجابا وسلبا تستعد سورية لولادة جديدة، ومسؤولية اختيار الطريق تقع على عاتق الحكم الجديد أولا وثانيا الدول الضامنة له، وعليهم ان يختاروا بين ولادة سورية ملهمه تضع سورية مرة أخرى في موقعها الريادي في التاريخ والحاضر العربي وتضمن المستقبل، او الانتكاسة نحو مصير سوف يطيل من عمر مأساة الشعب السوري. اتخاذ قرار حاسم وشجاع نحو سورية ديمقراطية وتعددية ومتنوعه، والتأكيد على المواطنة فقط، كضامن لكل فرد يعيش في البلاد، وليس الطوائف والملل والنحل والمذاهب والقبائل والاعراق، هو معنى البناء الحقيقي، وهو السبيل للقطع مع الماضي، وعدم الرجوع اليه بصور واشكال مختلفة. عندما تنتهي المرحلة الانتقالية ويبدأ مسار بناء النظام السياسي والحوكمة الجديدة، ستكون الصورة في سورية أوضح، والتعويل دوما على ما في هذا الشعب من مخزون ثقافي وحضاري وانساني، الشعب السوري امام فرصة في لحظة تاريخية فارقة، ليعيد مجده بين الأمم، ويعيد للإنسان السوري والعربي كرامته. سورية القديمة اختفت، وسورية الجديدة لم تولد بعد، وما علينا الا انتظار المولود الجديد.
كاتب واعلامي