سياسة إسرائيل في قطاع غزة.. القضم التدريجي والترحيل القسري!! المستشار د. أحمد يوسف

من يتأمل المشهد الدموي في قطاع غزة اليوم، يدرك أن ما يجري ليس حرباً عابرة أو رداً عسكرياً آنياً، بل هو جزء من استراتيجية إسرائيلية ممتدة تقوم على قاعدتين: القضم التدريجي للأرض، والتهجير القسري للسكان. فالدمار الهائل الذي أصاب المدن والبلدات، واستهداف المستشفيات والمدارس والبنية التحتية، وإغراق الناس في جحيم النزوح الجماعي، ليست سوى أدوات في مشروع أكبر يسعى لتغيير الخريطة السكانية والسياسية للقطاع، تماماً كما جرى في محطات سابقة من تاريخ الصراع.
منذ بواكير المشروع الصهيوني، لم تكن فكرة الدولة العبرية وليدة لحظة تاريخية عابرة، بل كانت نتاج عقول صهيونية مخططة حملت هاجس “إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات. فقد وضع تيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، الأساس الفكري، بينما صاغ جابوتنسكي نظريات “الجدار الحديدي” وفرض الأمر الواقع بالقوة. أما بن غوريون – الأب المؤسس للدولة العبرية – فقد كان مهندس السياسة العملية للتوسع، عبر الحرب والتهجير الجماعي، فيما تبعته أجيال من القادة الذين ترسخت في أذهانهم عقيدة التوسع وقضم الأرض.
عام 1948، تجسدت هذه الرؤية في أبشع صورها، عندما قامت عصابات الأرغون والهاجناه وشتيرن بمداهمة القرى الفلسطينية، وارتكاب المجازر المروعة لدفع الناس نحو الرحيل جنوباً وشرقاً. لقد كانت النكبة خطة ممنهجة لاقتلاع أكثر من 750 ألف فلسطيني، واستيلاء إسرائيل على نحو 78% من أرض فلسطين التاريخية.
وفي عام 1956، خلال العدوان الثلاثي على مصر، اجتاحت إسرائيل قطاع غزة، واقتطعت أجزاء من أراضيه الحدودية، كاشفةً عن أطماعها الدائمة في التوسع. ورغم انسحابها لاحقاً بفعل الضغوط الدولية، إلا أن تلك التجربة كانت دليلاً إضافياً على أن سياسة القضم والترحيل ليست طارئة، بل نهج ثابت في العقل الاستراتيجي الصهيوني.
واليوم، يقود بنيامين نتنياهو – بصفته الوريث الأكثر صلفاً لهذه العقلية – حرب إبادة وتطهير عرقي ضد قطاع غزة. فالرجل الذي طالما بشّر بـ“الدولة اليهودية الخالصة” لا يخفي رغبته في إحداث تغييرات جذرية في الخريطة السكانية للقطاع. وتقوم استراتيجيته على:
تدمير شامل للمناطق السكنية والمرافق المدنية.
استهداف المستشفيات والمدارس لشلّ الحياة.
فرض حصار خانق يقطع شرايين البقاء.
دفع الأهالي للنزوح جنوباً نحو رفح، تمهيداً لفتح الطريق – ولو جزئياً – نحو سيناء.
إن ما يسمونه في الإعلام العبري “المناطق العازلة” أو “إعادة التموضع السكاني” ليس سوى عناوين مُضلِّلة لسياسة قديمة جديدة: قضم الأرض شبراً بعد شبر، وإفراغها من سكانها الأصليين، تمهيداً لضمها لاحقاً في إطار مشروع “إسرائيل الكبرى”.
لقد أثبتت العقود الماضية أن العقل الصهيوني، الذي صاغه هرتزل وجابوتنسكي وبن غوريون، ما زال يحكم إسرائيل حتى اليوم، وأن نتنياهو ليس إلا امتداداً لهذا الإرث الاستيطاني الدموي. هو يواصل تنفيذ الخطة ذاتها، وإن بلغة سياسية حديثة وتحت عناوين “الأمن” و“الحرب على الإرهاب”.
ومهما حاول نتنياهو ومن خلفه عقلية المشروع الصهيوني أن يفرضوا واقعاً جديداً بالقوة، فإن الفلسطينيين – شعباً ومقاومة – يؤكدون في كل لحظة أنهم لن يغادروا أرضهم، ولن يفرّطوا في حقهم التاريخي والديني. فغزة اليوم ليست مجرد ساحة حرب، بل هي خط الدفاع الأول عن القدس وفلسطين.
إن الرسالة التي يبعثها أهلنا تحت الركام والجراح تقول للعالم كله:
“هنا باقون.. نموت وتحيا فلسطين؛ قضية الأمة ومركزية الصراع” .