شيء لا يذهب.. د.إياد أبو الهنود

في زمنٍ تتجدد فيه المجازر، وتتكشّف فيه نوايا الإبادة بوضوح لا يترك مجالًا للالتباس، يغدو التمسك بالهوية فعلَ مقاومةٍ أول، وتتحول الذاكرة إلى جبهةٍ مفتوحة في وجه مشاريع التصفية؛ ما يجري في فلسطين اليوم ليس مجرد حربٍ على الأرض، بل محاولة شاملة لاقتلاع الإنسان الفلسطيني من الخريطة ومن الحكاية. ومع ذلك، يبقى هناك “شيء لا يذهب”—كما أسماه الشهيد غسان كنفاني في قصته القصيرة عام 1958، عن امرأة فلسطينية رفضت مغادرة حيفا، قائلة:
“لقد فقدتُ كل شيء، ولا أريد أن أفقد ماضيي الجميل في حيفا الجميلة… أريد أن يبقى لي شيء لا يذهب”.
واليوم، في ظل حرب الإبادة التي تُشنّ على غزة، تستعاد هذه الكلمات لا كأثر أدبي، بل كجوهر حيّ للمأساة وللصمود؛ ما بين نكبة الأمس ونكبة اليوم، يعود السؤال: ما الذي يمكن أن يُنتزع منا؟ وما الذي يبقى، مهما عظُم الجرح؟
في فلسطين، لا يُفصل الإنسان عن أرضه دون أن يُنتزع قلبه، حتى حين يُقذَف إلى المنفى، أو يُدفَن تحت الركام، يبقى متشبثًا بالحجارة كما يتشبث القلب بنبضه، يخبّئ أسماء القرى في أغنياته، ويحمل مفاتيح البيوت في جيبه، ويروي الحكايات كما لو أنه يسقي بذور الذاكرة؛ فالمعركة هنا ليست فقط على الأرض، بل على الاسم، واللغة، والرواية، والوجود ذاته.
ولسنا وحدنا في هذه التجربة؛ فقد خاضت شعوبٌ أخرى حروبًا مشابهة بين لهيب الاحتلال ومقصلة الإبادة. ففي الجزائر، واجه الناس استعمارًا فرنسيًا استيطانيًا استمر لأكثر من 130 عامًا، سعى إلى محو الإنسان قبل الأرض؛ فُرضت اللغة الفرنسية، وقُمعت العربية والدين، وأُغلقت الكتاتيب، لكن الأمهات واصلن إرضاع اللغة لأطفالهن، وبقي الشعر الشعبي يُغنّى في الأعراس، كوثيقة مقاومة تحفظ الانتماء.
وفي الهند، لم تكن مقاومة الاستعمار البريطاني بالسلاح وحده، بل بما وصفه غاندي بـ”مقاومة الروح”، خيضت معركة على رموز الحياة: الأزياء المحلية، اللغة الأم، وأدوات الغزل اليدوي مثل “الكارخا” التي تحولت إلى رمزٍ للسيادة الذاتية، كان الشعب يقول: “لن نُهزم طالما بقي فينا ما يُشبهنا”.
أما في أمريكا اللاتينية، فرغم محاولة الاستعمار الإسباني طمس حضارات المايا والإنكا والأزتك، ظل الإرث الثقافي حيًا في تفاصيل الحياة اليومية: في اللباس، الأعياد، والأغاني التي حملت روح الأجداد، حتى عادت بعض الدول فاعترفت بلغاتهم واحتفت بمناسباتهم كجزء من الهوية الرسمية.
لكن المثال الأبلغ يبقى هنا، في فلسطين؛ هذه الأرض لم تُقصف بالصواريخ فحسب، بل وُوجهت بمشروع طويل الأمد لتفريغها من سكانها ومن معناها؛ أُزيلت القرى من الخرائط، حُوّلت أسماء البلدات إلى العبرية، وقُدّمت الرواية الصهيونية كحقيقة، فيما الحقيقة تُدفن تحت الركام. ومع ذلك، ظلّت التطريزة تحفظ خرائط القرى، وبقيت الأغنية الشعبية تُعيد أسماء من رُحّلوا، وظل المفتاح المعلّق على الجدار شهادة ميلاد لم تُسجل في السجلات الدولية، لكنها حيّة في الذاكرة.
فما نملكه ليس مجرد ثقافة، بل سلاح وجودي في وجه المحو. الهوية هنا ليست ترفًا، بل مقاومة يومية صامتة، لا تسقطها القنابل، ولا تُلغِيها الاتفاقيات؛ من يحاول اقتلاع الفلسطيني، لا يواجه جسدًا فقط، بل يواجه ذاكرة عنيدة، وأغنية متوارثة، وثوبًا مطرزًا يحفظ التاريخ بالخيط والإبرة.
إن ما يُفرض على غزة اليوم ليس مجرد نزوحٍ جماعي أو مأساةٍ إنسانية عابرة، بل محاولة لفرض منفى دائم يُراد له أن يُغلق قوس الذاكرة ويطفئ جذوة الوجود الفلسطيني. لذلك، لا يكفي أن نتحدث عن “ضحايا” أو “عمليات عسكرية”، بل لا بد من تسمية الأمور بأسمائها: اقتلاع، تصفية، ومعركة على الحق في البقاء.
وما يحول دون اكتمال هذه الجريمة هو ذلك الشيء الذي لا يذهب: تمسّك الفلسطينيين بجذورهم، وتجدد هذا التمسك في كل طفل يحفظ اسم قريته، وفي كل أمّ تزرع في قلب ابنها علمًا بدل اليأس.
لقد علمتنا تجارب الشعوب أن من ينجو من الإبادة ليس الأقوى سلاحًا، بل الأعمق جذورًا، والأصدق تمسكًا بالحق؛ ففي كل مرة يُعلن العالم “انتهاء القضية”، يعيد الشعب صياغتها بلغةٍ جديدة: حكاية، أغنية، صورة شهيد، أو رقصة دبكة فوق الركام.
هناك شيء لا يذهب، لأن ما يُزرع في الأرض لا تقتلعُه المجازر، ولا تنهيه النكبات، وكلما اشتدّت محاولات الإبادة، ازداد الفلسطيني رسوخًا، لا كبقاءٍ جسدي فحسب، بل كهويةٍ متجذّرة في المكان، ممتدة في الوعي.
وفي مواجهة مشاريع الاقتلاع، لا يكون الرد بالرحيل، بل بالثبات؛ ومن هذا الثبات، من هذا الجذر، تولد إمكانية التحرر—لا بوصفها لحظة عابرة، بل فعلًا تراكميًا ينهض من تحت الركام، ويعيد للأرض اسمها، وللناس ملامحهم.