في أرض الحرية.. قصة الأمل والمعاناة!! مفاز أحمد يوسف

“وظيفة الحرية هي أن تُحرّر شخصًا آخر” هكذا قالت الرائدة الأدبية الأمريكية ذات الجذور الإفريقية، توني موريسون، بعدما واجهت قسوة التمييز،وخاضت معركة كسر القيود السياسية والاجتماعية، التي كبّلَّت حركتها، والتي ما كان لصوتها أن يبلغ مداه، لولا الحِراك الحقوقي المستعر في الولايات المتحدة، والمساحات التي فتحها على المستويينالقانوني والسياسي.
لقد تعلّمت موريسون معنى الحرية من وجعها، فنذرت نفسها كي يحظى بها الآخرون، كما حلمت بها يوماً لنفسها.
في مشهدية الوجع والمعاناة والمظلومية، بدأت هذه التغريبة لسردِّية وجدت نفسي في عمق صيرورتها.
أنا فلسطينية، وهويتي الوطنية قرينة القهر والمعاناة، فلا يمضي يوم إلا ويحمل جروحًا وندوبًا جديدة لأبناء شعبي؛ جروحًا جسدية ونفسية وعاطفية.
ففي حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، فقدتُ أغلى الناس إلى قلبي؛ صديقتي سلمى، التي اختُطفت حياتها وأخذت روحها صواريخ الاحتلال الإسرائيلي مع عشرين فردًا من عائلتها في ٢٤ أكتوبر 2023.
زوجي، بدر خان سوري، ذو الأصول الهندية، جاء إلى الولايات المتحدة باحثًا بعد الدكتوراه، متخصصًا في دراسات “بناء السلام وحلِّ النزاعات”.
عندما وصل د. بدر خان إلى أمريكا، انبهر وقت التحاقه بجامعة جورجتاون بالحرية السياسية والانفتاح الفكري، اللذين يُميّزان هذا البلد، وعقد العزم على تكريس جهده للبحث والعطاء في سبيل السلام، بينما بقيتُ أنا في العاصمة الهندية دلهي،لمتابعة عملي وشؤون أسرتي.
لكنه زمنٌّ مثقل بمشهدية الظلم، ولا مكان فيه للسلاموالاستقرار!!
العالم -اليوم- يشهد إبادة غزة في صمتٍ رهيبٍ تقشعر له الأبدان. ومع تصاعد حجم الكارثة والعدوان على قطاع غزة، انتابني شعور غريب بالصدمة والذهول، وغدا وجع بلادي يتجاوز قدرتي على الصبر والاحتمال.
كان زوجي د. بدر خان يتواصل معي عبر الهاتفويواسيني، وكنت أجد في كلماته الحانية تلك ما يعينني -لبعض الوقت- على الصبر والتحمل، وكانت وقفاته إلى جانبي خلال تلك الحرب الكارثية، تحقق بعض التوازن، مع ما كنت أسمعه يومياً من أخبارٍ محزنة لفقدان صديق أو قريب.
كان د. بدر خان بالنسبة لي هو كلُّ شيء في حياتي؛ الزوج الحنون والصديق الوفيً؛ كان يشدًّ من أزري ويمنحني بعض الطاقة لمواصلة التحمل،رغم تباعد المسافات بيننا.. وعندما غرقت في أحزاني، وسكنتني المواجع من هول ما أسمع وأرى على شاشات التلفزة، أصرَّ ألا أظلَّ بعيدةً عنه، ودعاني للقدوم إلى الولايات المتحدة، لأكون إلى جانبه مع أطفالنا الثلاثة، وهذا ما كنا نتمناه ونرجوه.
وبناءً على ذلك، تركت عملي في السفارة القطرية بالعاصمة دلهي، والتحقت بزوجي الباحث والمحاضر في جامعة جورج تاون بالعاصمة الأمريكية.
ومع كلِّ هذا الخير الذي خبأه القدر لنا، ولا نستطيع نكرانه فحمدناه سبحانه، إلا أن استمرار حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، حيث أهلي وأقربائي وزميلاتي في ملاعب الطفولة ومدارجالصبا، ظلت تحرك مواجعي وأحزاني، فما زلت أعيش في حالة من القلق الدائم والاضطراب، وأعاني من اكتئاب عميق؛ تطاردني الهواجس والكوابيس، كلما وصلني خبرٌ من غزة، حيث إنَّ المحرقة بما فيها من مشاهد القتل والتجويع والحصار، لا تحملُ أخبارها إلا ما يُدمي القلب ويزلزل الأقدام.
وكنتيجة لذلك؛ وضع د. بدر خان طموحاته الأكاديمية جانباً، كي يساندني في ضعفي ويغمرني بدعمه وحنانه، ليس لي وحدي، بل لأطفالنا الذين طال غيابهم عن دفء يديه وحنانه.
لقد احتمل بدر خان بصبرٍ قسوة الظروف التي أمرُّ بها، خشيةً على أهلي مما يرتكبه جيش الاحتلال من مجاز شبه يومية، واجتهد كي يُعيد إلى كينونتي شيئًا من التوازن والاطمئنان.
ومن الجدير ذكره، أنني أحمل شهادة الماجستير في السلام وحلِّ النزاعات من مركز نيلسون مانديلا في الهند، وهو أحد أعرق مراكز الدراسات في جنوب آسيا. في سياق حالة استشرى فيها الهمُّ واستبد بي القلق، دفعني زوجي لأتقدم إلى ماجستير آخر في جامعة جورج تاون، وقدّم لي دعمه الكامل، قائلاً: “هذه هديتي لك.. أنتِ تستحقين أن تسكن السعادة قلبكِ”.
تفتحت لأطفالنا نافذةٌ جديدة في الحرم الجامعي؛ لعبوا تحت ظلال أشجار الكرز، وضحكوا مع الطلاب، وبدأ الشعور يسكن قلوبهم أن جورج تاون؛الحي السكني المجاور، غدا لهم بمثابة “المنزل الثاني” للعائلة.
ورغم كلّ هذا الارتياح الذي شعر به أولادي بالتأقلم مع الغربة، إلا أن غزة ومواجع أهلها لم تغادر قلبي لحظةً واحدة.
خلال سنوات الدراسة والعمل التي انشغل فيها زوجي عنَّا، فكرت بالعودة إلى غزة؛ لأكون بين أهلي وأقاربي، حتى يفرغ زوجي من مهمته الأكاديمية ومنحته للدراسات العليا ما بعد الدكتوراه، ولكنَّ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 قطع الطريق أمام أي أمل لي في تحقيق ذلك.
بدأنا بناءَ حياة جديدة في الولايات المتحدة، كان بدر خان قد سبقني في القدوم إلى أمريكا والالتحاق بجامعة جورج تاون كباحث ومحاضر..
وفي لحظة فارقة من حياتي، حزمت حقائبي ولحقت به بعد أكثر من عام ونصف العام، وشرعت بدراسة الماجستير في الدراسات العربية، ودخل أطفالنا مدارسهم وبدأوا بتكوين صداقاتهم والتكيف تدريجياً مع الحياة الأمريكية، وشعرنا للمرة الأولى منذ سنين بأنَّ لنا مثابة آمنة، إذ أخذ الاستقرار طريقه إلى حياتنا..
لم تدم سكينة القلب طويلًا، إذ عادت غزة لتنزف من جديد؛ فالقصف الإسرائيلي أصبح جنونياً، مما جعل عائلتي تُجبر على النزوح والعيش في الخيام، تقاسي حرّ الصيف وبرد الشتاء وتعاني من مخاوفالتهجير القسري، والاستهداف الذي لم يسلم منه أحد.
وعليه؛ بتُّ أعيش في فزعٍ بانتظار مكالمة قد تحمل لي نعيًا آخر لأحد أحبّتي.
وسألت أمي يومًا عن حالها، فأجابت: “ما زلت على قيد الحياة، وإن متُّ، فلا تبكي.. فالموت غدا أهون علينا مما نحن فيه.”
أصبحت الليالي بلا نوم، والأحداث حولي أثقل من أن يتغافل عنها أي إنسان.
جاء وقف إطلاق النار في يناير ليمنحنا بارقة أمل، لكنه سرعان ما خفت، حين خُرقت الهدنة في 17 مارس، وبدأ أصعب الفصول في هذه الحرب بمجزرة رهيبة، فقد فيها أهل غزة أكثر من أربعمئة إنسان؛أغلبهم من النساء والأطفال في يوم واحد، بحسب منظمة العفو الدولية.
وعلى إثر ذلك، اتصلت بهلع بأهلي.. لم يجب أحد!! دقَّ قلبي حتى كاد يتوقف؛ وعندما سمعت أخيرًا صوت أمي، كان أنينها يُقطِّع القلب: “قتلوننا يما… القنابل في كلِّ مكان… ادعِ لنا… أحب…” وانقطع الخط.
في الحقيقة، لم تكن تلك أقسى محطاتي.
بعد ساعات، رن الهاتف؛ كان د. بدر خان، يرتعش صوته: “مفاز، تعالي بسرعة… إنهم يعتقلونني.” سألت بذعر: “من؟” قال: “تعالي فورًا.” ركضت أبحث عنه، لأجد ثلاثة رجال ملثمين يحيطون به، يفتشون أغراضه.
كان وجهه يعكس ذعرًا غير معهود، قيّدوه وقادوه إلى سيارة الشرطة، تكلمت معهم محاولة الفهم: “من أنتم؟ ولماذا تأخذونه؟” وكان الجواب: “الأمن الداخلي. الحكومة ألغت تأشيرته”
قبل أن يبتعد، قال لي بدر خان: “أحضري أوراقي الرسمية وجواز سفري”. هرعت إلى البيت وسألني طفلي ذو الأعوام التسعة: “أين أبي؟ ولِم تحملين أغراضه؟” بذلت جهدًا كي أبتسم، وأجيب: “سافر، وسيعود قريبًا.” لكن ابني شعر بارتياب قائلاً: “أنت تبكين… هل أبي بخير؟” قلت له: “نعم يا حبيبي. الحرب اشتعلت من جديد في غزة.” فاستغرب: “مرة أخرى؟”
هو طفلي، الأقرب لوالده، ينام في حضنه ويقول له دومًا: “أنت دُبّي الصغير.” تلك الليلة، احتضن دميته وبقي واجمًا، يحاول بلا شك العثور على معنى للفراغ الجديد.
في اليوم التالي، شاهدت الأخبار لأفهم ما يجري حولي، التقارير تفيد بأنه متهم بـ”علاقاته مع حماس”. كدت أضحك من فرط هذا العبث، ما عرفته عنه طوال أحد عشر عامًا: شغف حتى الثمالة بالعلم وقراءة الكتب، وكان يُذكّرني دوماً بجيمس بالدوين حين قال: “أفكر أحيانًا، ماذا كنت سأفعل لو لم تكن هناك كتب؟”.
من المعروف عن د. بدر خان أنه ليس متطرفًا، بل عالمٌ وباحث، وأستاذٌ محب وأبٌ مخلص وزوجٌ وفيٌّ، لا يستحق أن يُحرم من دفء عائلته ورفقة طلابه وكتبه.
ما زال طيف فرحته حين قُبِل في جامعة جورج تاون محفورًا في ذاكرتي، إذ أغرق الدمع عينيه -آنذاك- من البهجة، ولم يدر أن أيامه ستنقلب بغتة، في أرضٍ حلمَ فيها بالحرية والعدالة.
إنَّ غيابه الذي طال شهوراً الآن، يمزّق قلوب أطفالنا في كلِّ لحظة، يسألون عنه باستمرار: “لماذا لم يتصل؟ هل أصابه مكروه؟ اتصلي به!” أخفيت عنهم الحقيقة، حتى سمع ابني الأكبر محادثتي مع المحامي، واقترب مني يحتضنني قائلاً: “سيعود قريبًا يا أمي، بالله عليك لا تبكي..” عندها عجز لساني عن الكلام، ولم تبق لي إلا دمعة انسابت من المآقي وضمّة مشبعة بالحنان.
في كلِّ ليلة، يرسل أولادي إلى هاتف والدهم رسائل صوتية، تقول: “بابا.. أين أنت؟ لقد افتقدناك.. هل نِمت؟ نحن نحبك.. نريد أن نحضنك.”
في العيد، تضاعف الوجع، ففي العام الماضي،صلَّينا معًا في مسجد الجامعة، واشترينا للأولاد ثيابًا جديدة، وابتسمنا للكاميرا تحت أشجار الكرز المحيطة بالحرم الجامعي. أما هذا العام، فلا عيد، ولا صلاة، ولا ضحكة.
اتصل بنا بدر خان من معتقله يسأل: “هل لا يزال رمضان؟ أم أتى العيد؟ أنا صائم”. قلت وقلبي يتفطر وله وجيب: “اليوم عيد.” قال: “ليتني بينكم.. أنا وحيدٌ غريب لا يعرفني أحدٌ هنا”.
في ظل هذه الاجواء التي حاصرتني وتركتني وحيدة مع أحزاني، عجزت عن حضور محاضراتي، إذ تحمّلت مسؤولية الأطفال وحدي، ولما مرضوا قبل عدة أيام، حملتهم للطوارئ بنفسي لأول مرة. عرفت عندها كم كان بدر خان ملاذهم حين يمرضون. قال أحدهم والألم بادياً على وجهه: “إن أبي كان طبيبنا.” عرفت يومها كم يفتقدونه، وفي عيونهم كانت رسائل كثيرة واحزان.
أكثر من شهرٍ مرَّ منذ اختطاف بدر خان منا، وأنا أكتب هذه السطور فإن جسدي لم يهدأ ارتجافه،فهو مثقل بالوجع والأحزان..
إن د. بدر خان هو إنسان مرهف الحس، ومن المضحك اتهامه بأي شيء له علاقة بالإرهاب، إنه باحثٌ نذر علمه لحلِّ النزاعات.
زوجي ليس مجرمًا، بل أكاديمي ومدافع عن الحرية والسلام.
أنا لست تابعة لأي جهة سياسية أو حزبية، بل زوجة وأم وباحثة في الشؤون الإنسانية.
أنا فلسطينية الوطن، ينهش قلبي وجع غزة، وأمريكيةالمولد تؤمن بحرية الرأي والتعبير.
جئنا هنا نحلم بالعلم والعمل والفرص وتحرير الطاقات.
لم نأتِ لنُعذّب أو نُحتجز، نحن نؤمن بالسلام وبالعدالة.. ولهذا فإن ما نطالب به ونهتف له:
الحرية لبدر خان!!
والحرية لفلسطين!!