اخبار

كيف استولت «الجزيرة» على العقل العربي؟

«الجزيرة» مؤسسة إعلامية ضخمة بإمكانيات هائلة تفوق قدرات دول، ولديها شبكة مراسلين محترفين حول العالم، وتحظى بجمهور عريض، بمن فيهم معارضوها، وهي وإن بدت مؤسسة خاصة مستقلة، إلا أنها ذراع رسمية للدولة التي تمتلكها، وتتلقى منها كل الدعم المالي والسياسي المطلوب، وبإغداق منقطع النظير، وبالتالي لا يمكن لهذه المؤسسة أن تخرج عن نهج وسياسات وتوجهات الدولة (قطر)، أو أن تضر بمصالحها أو تخرب على أهدافها، ما يعني بالضرورة أن «الجزيرة» وقطر شيء واحد.

ولكن، كيف تمكنت «الجزيرة» من تحقيق هذا الانتشار الواسع، وأن تهيمن على قلوب وعقول الملايين، لدرجة أن من ينتقدها يُتهم بالخيانة، وأنه متساوق مع الاحتلال، وكأن «الجزيرة» باتت مقدسة، شأنها شأن القيم الاعتبارية الكبرى!
مدخل الإجابة لفهم هذه الظاهرة التأكيد على أن القناة والعاملين فيها محترفون، وكل شيء فيها مخطط ومدروس، ولا شيء يتم بطريقة ارتجالية وعفوية، بدءاً من طريقة صياغة الخبر ولغته، وعرض شريط الأخبار، إلى إبراز ما تراه «خبر عاجل»، وترتيب الأخبار، وانتقائها، واختيار الضيوف بعناية، ونوعية الأسئلة المطروحة، والأشياء التي ينبغي التركيز عليها، والصور والتقارير المعروضة، والبرامج الحوارية.. ومن يشرفون ويخططون صحافيون محترفون ومتخصصون في السلوك الاجتماعي وعلم النفس البشري.. ولا أكشف سراً حين أقول: إن الولايات المتحدة (رائدة الإعلام الأولى في العالم) وخبراءها لا يزودون القناة بالمعلومات وحسب، بل بخلاصة الخبرة الأميركية في صياغة وخلق الرأي العام، وتحديد اتجاهاته، أو بعبارة أدق خلق قطعان من الجمهور تسير وتفكر بثقافة القطيع.
وأيضاً لا أكشف سراً حين أقول: إن السمة العامة لقناة «الجزيرة» أنها شعبوية؛ فالإعلام موجه أساساً لعامة الناس، من ذوى الثقافة المتوسطة والمنخفضة وأصحاب «الثقافة السماعية»، وهذه الفئات الواسعة من المجتمعات لا تلتفت للحقيقة نفسها، ولا تفتش عنها، بل تهرب منها وترفضها، وتبحث عن الأخبار المثيرة والعناوين الكبيرة البراقة، وعمّن يثير عواطفها، ويريحها من عناء التفكير والتمحيص، حتى لو كانت كذباً مكشوفاً، أو أخباراً مجتزأة ومشوهة وناقصة، المهم أن تلبي حاجاتهم النفسية خاصة عندما تكون جماهير مأزومة، وتمر في محنة، وتتعرض لهزيمة أو لعدوان خارجي كاسح، في هذه الحالة كل ما تريده حالة من الهياج العاطفي تعوّض ما ينقصهم، وتعيد إليهم توازنهم الداخلي المهزوز. ولا شيء يحقق هذا الغرض مثل أخبار محددة ومركزة وقصيرة تسعدهم، مثل خبر استهداف دبابة أو قنص جندي أو قرب انهيار حكومة نتنياهو، مرفق مع تحليل عاطفي شعاراتي أيديولوجي. والاحتراف في هذه الحالة الزجّ بأخبار صحيحة غير كاملة، وحقائق مجتزأة، لكنها الحقائق التي تخدم الكذب. أي كما يُقال في المثل الدارج: «دس السم في الدسم».
إذا كان هذا حال العامّة، ماذا بشأن النخب المثقفة، واليساريين، وحملة الشهادات العليا؟
مهما اعتقد الشخص أنه عقلاني وواقعي، وذو تفكير عميق أحياناً كثيرة، يقع فريسة العديد من المغالطات المنطقية. والمغالطات المنطقية عبارة عن خطأ منهجي في التفكير والنقاش والاستدلال يحدث عندما يجد الشخص نفسه أعزل ومشوشاً أمام الكمّ الهائل من الأخبار والمعلومات التي يتلقاها يومياً، وهنا يتحتم عليه اتخاذ موقف ما أو الانحياز لجهة دون الأخرى، أو تبني حكم أو توجه فكري وسياسي معين، فيقوم الشخص بمعالجة وتفسير المعلومات الهائلة المتدفقة من حوله بالاعتماد على بعض الإستراتيجيات المبسطة، والاختصارات الذهنية، بطريقة سريعة ومرتجلة ومنحازة، الهدف (غير الواعي) منها حماية النفس، وإعادة التوازن الداخلي، وتوكيد الذات، وتقليص اللجوء للتفكير (لتوفير الطاقة).. فيلجأ إلى مجموعة انحيازات تشكلت مسبقاً عبر الخبرة الحياتية السابقة ووفقاً للحالة النفسية والشخصية الراهنة، ونتيجة المشاعر والانفعالات والعواطف المتولدة من تأثير الأحداث المحيطة. المشكلة أن هذه الانحيازات تؤدي إلى أخطاء في الاستنتاج، وإلى عدم فهم الحقيقة. وهذه المغالطات أو الانحيازات تحترف «الجزيرة» استخدامها، وإليكم بعضاً منها:
مغالطة التحيز التأكيدي، وتعني انحياز الشخص لآراء مَن يُحبّه، وتصديق كل ما يقول دون تدقيق، وتكذيب كل ما يصدر عن الجهة التي يكرهها، بصرف النظر عن مدى دقته وصوابيته.. وعامّة الناس بمن فيهم النخب المثقفة والمفكرون ينحازون بدرجة ما إلى الأفكار والمواقف والاتجاهات التي تستهويهم، ويحتكمون إلى مرجعياتهم القديمة، وموروثهم الثقافي المخزن في عقلهم الباطن.. وبالتالي سيقعون في مغالطة «التحيز التأكيدي»؛ أي أنهم سيميلون إلى انتقاء المعلومات والأخبار التي تؤكد قناعاتهم السابقة، وسيرفضون أو يغفلون عن المعلومات والأخبار التي تتناقض معها، فتجدهم يتفاعلون مع الأحداث والقصص الإخبارية بطريقة تؤكد أحكامهم المسبقة وتدعم أفكارهم الحالية، ما يجعلهم على ثقة ويقين في كل ما يعتقدون به، لدرجة التعصب.
ويشكّل هذا التحيّز عائقاً يحول دون فهم الأحداث بموضوعية. فهذه الانتقائية تعمل على إعادة تأكيد الصور النمطية المكونة مسبقاً، وتمنع رؤية أو تفهّم أي صورة أخرى مخالفة مهما كانت. وفي الواقع هذا التحيز عملية خيانة للحقيقة، وشكل من أشكال التضليل. فخيانة الحقيقة لا تكون فقط بالكذب، بل من خلال تشويه الحقيقة، وانتقاء أجزاء مُختارة منها بعناية، وصولاً إلى الكذب على الذات.
المغالطة الثانية «انحياز التغطية»، وهي الشكل الأبرز للتحيّز الإعلامي، حيث تغطى القناة المواضيع والقضايا بشكل غير متناسب مع أهميتها، أو التركيز على ما يخدم توجهاتها من حيث كمّية العرض المُوجّه وحجمه وكثافته.. أو بعبارة أخرى ممارسة «انحياز التجزئة» بالعرض الانتقائي للأخبار بطريقة مقصودة تؤدّي إلى تأجيج المشاعر وتشكيل مواقف وتوجهات معينة، فتصبح القضية ذات الأوجه المتعدّدة بوجهَين فقط وشديدة الاستقطاب، وسبباً للانقسام.
أما «مغالطة الاحتكام للسلطة»، فتستخدمها القناة لترسيخ معلومة معينة، أو لخلق توجه ما بالاعتماد على الثقة غير العقلانية التي يمنحها الجمهور لكلّ ما يصدر مِن أشخاص ذوي سلطة معرفية (خبراء ومحللين) أو مناصب رفيعة، وتصديق كل ما يقولونه، وتقدير آرائهم، والتأثّر بهم، والاعتقاد بأنّهم على صواب، فقط لأنّهم ذوو مناصب وسُلطة معرفية وخبراء.
على أي حال، ليست «الجزيرة» وحدها من يفعل ذلك، كل القنوات والمحطات الفضائية تفعل ذلك بطرق منوعة، وتستغلّ فهمها لنقاط الضعف البشرية، وتقوم بتعبئتهم وتوجيههم، وكلٌ بحسب تعليمات الممول والدولة المضيفة، وهذا حال الإعلام الحالي المرئي بشكل خاص، فهو مجرد شكل من أشكال الدعاية السياسية والأيديولوجية مقدم بشكل إعلامي محترف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى