اخبار

كيف مرّت 600 يوم على الإبادة؟

كيف سكت كل هذا العالم على 600 يوم من الموت المجاني وكل صوره وأشكاله؟ كيف احتمل كل هذا الحشد البشري وهو يرى محرقة غزة أن يرى رأسه على وسادة لكي ينام، ثم يستيقظ لكي يذهب إلى عمله ويمارس حياته ويودع اطفاله إلى المدرسة، ويأكل طعامه مع العائلة، فيما هناك وفي تلك البقعة الضيقة تمارَس أبشع وسائل التعذيب من الموت اللحظي الذي ينتزع الأحبة، وينقص عدد الأفراد او قد يمحوهم، وصولاً إلى الموت جوعاً وعطشاً ومرضاً وقهراً ونزفاً وتشرداً؟

لا أدري كيف مرت هذه الأيام حتى أصبحت تعد بالمئات، في حين انني لم أتوقع ان تكمل الشهر او الشهرين، وإن كنت متشائمة فقد كنت أتوقع ان تنتهي مع حلول العام الجديد وهو عام 2024، وحيث دقت ساعاته الأولى وانا وعائلتي في احد بيوت النزوح في مدينة خان يونس جنوب القطاع، وحيث تركنا كل شيء خلفنا في بيتنا حيث نسكن وسط مدينة غزة، ولسان حالي يطمئن الأولاد اننا سنعود، ولكن قلبي كان يقول لي «أنها روحة بلا رجعة».

كيف مرت هذه المئات من الأيام ونحن نخسر كل شيء حتى آدميتنا، حتى حقنا الصغير في حمام مغلق نقضي فيه حاجتنا ونغسل أجسامنا بماء ساخن وصابون كثير الرغوة، وأصبحت حياتنا في الشارع حرفياً ما بين حمام بدائي يقام وسط الخيام، او حمام مشترك في بيت نزوح تخشى ان تسرف فيه الماء الذي جمعه الرجال بصعوبة، او تخشى ان يكتشف هؤلاء الرجال انك اعتنيت بجسدك الانثوي ذات لحظة وقد اصبح ذلك من المحرمات، وكل ما هو مسموح لك به هو لتران من الماء تسكبهما فوق جسمك في عز البرد، ثم تلفه بمنشفة وتخرج سريعاً لكي يلحق غيرك بدوره في الاستحمام قبل نفاد كمية الماء المخصصة لذلك، وعليك الانتظار لدورك القادم حتى تكره رائحة جسدك وتعتزل الآخرين، وتلوذ في زاوية بلا حراك معلقاً نظرك في المجهول.

الآن اكرر عبارة «لا ادري»، وأتخلى عن التساؤل الذي بلا إجابة ممن حولي، فكلهم صم بكم عمي، وأسأل نفسي أيضاً كيف خرجت من المقتلة والمحرقة وأصبحت بعيداً عن كل شيء عشت فيه لنصف قرن حتى ألفته وألفني، وأصبحت في غربة لا يربطني بالمكان سوى حقيبة سفر أنقلها من بيت إلى بيت، ولا أحمل معي حتى ألبوم صور يذكرني بمن تركت بقايا عظامهم تحت الأرض، وأنا لم اكن أملك أغلى منهم، وكنت أحرص على زيارة تلك البقايا، وبقيت ارتجف كلما سمعت ان دبابات العدو قد وصلت على مشارف المدينة من الجهة الجنوبية وقد نبشت القبور بحثاً عن وهم، وحتى فقدت الأمل تماماً أنني قد أعود ذات يوم لأجد قبر أبي وأمي وأجلس قبالة كل واحد لدقائق، وأتحدث إليهما على انفراد ثم أغادر وأنا أعرف أنني أعيش فوق هذه الأرض برضاهما ودعائهما، وأتخيل في كل لحظة ان أنفاسهما حولي فأستمر وأشعر بقوة أكثر وأكثر.

اليوم أنا إنسانة هشة ويقتلني اليأس ويقتلني إلحاح السؤال، وهو: كيف مرت مئات الأيام وأهلي في غزة يموتون بأبشع طرق الموت ولا أحد يمد يده لينقذهم، وليس حولهم سوى الوعود والآمال الكاذبة، فيما يمعن العدو في التفنن بقتلهم وكأنه في سباق؟ بل هو كذلك فعلاً لأن من يطلق الوعود ويبث الآمال الكاذبة يفعل ذلك ثم يخلد إلى النوم، فيما يدور منجل الموت فيحصد الرؤوس وتسيل الدماء أنهاراً، ثم يصحو بعد إغفاء طويل ليطلق وعداً خبيثاً بأن هذا الجنون يجب ان ينتهي، وينتعش الموتى الأحياء بأن هناك بعض الأمل، ويحتفلون فوق الركام وبين الأنقاض، والجوع يقرص أحشاءهم والخوف يقضّ مضاجعهم.

هل سأل العالم نفسه هذا الصباح كيف مرت ستمائة يوم على صمتي؟ ولماذا تركنا كل هؤلاء يموتون؟ لماذا افقدناهم أقل حقوقهم التي لا تكلفنا شيئاً؟ ولكننا تواطأنا وتخاذلنا حتى أصبحت غزة الصغيرة الضيقة بؤرة للموت والفقد والدم والجوع، وكل مسميات الألم التي تبصق في وجه مدعي الإنسانية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى