لا تراهن على عقلانية خصمك.. د. ربحي الجديلي

عبارة “لا تراهن على عقلانية خصمك” هي قاعدة ذكية وعميقة تُستخدم في مجالات متعددة مثل السياسة، الاقتصاد، التفاوض، وحتى الحياة اليومية. وهي تحذير من خطأ شائع يرتكبه الكثيرون: افتراض أن الطرف الآخر سيتصرف بعقلانية دائمًا.
???? القاعدة تقول ببساطة:
لا تفترض أن خصمك – أو الطرف المقابل لك – سيتخذ قرارات منطقية أو “عقلانية” بالضرورة، حتى لو كانت هذه القرارات في مصلحته.
???? لماذا هذه القاعدة مهمة؟
* لأن الناس لا تتصرف دائماً بعقلانية:
فالبشر تحركهم أحيانًا المشاعر، الغرور، الانتقام، أو الجهل، أكثر مما تحركهم المصلحة والمنطق.
* وقد تختلف معايير العقلانية:
فما تعتبره “عقلاني” من وجهة نظرك، قد لا يكون كذلك من وجهة نظر خصمك.
فربما كانت لديه أولويات مختلفة، خلفيات ثقافية أو دينية، أو حتى سوء تقدير.
* ولأن العناد والتصرفات الانتحارية موجودة:
هناك خصوم قد يضحون بمصلحتهم فقط لإلحاق الضرر بك. وهذا شائع في النزاعات السياسية والعائلية وحتى بين الشركات.
* ولأنك عندما تفترض عقلانية خصمك، وتبني استراتيجيتك على تصور أنه سيتصرف “بحكمة”، فإن خطتك ستنهار.
إفراطك في الثقة بعقلانية الطرف الآخر قد يوقعك في خطأ استراتيجي.
+++++
???? أمثلة على تطبيق القاعدة:
* في السياسة:
لا تراهن على أن دولة ما لن تهاجم لأنها “ستخسر اقتصاديًا”، فقد تتحرك بدوافع قومية أو عسكرية أو دينية أو لحفظ ماء الوجه.
* في التفاوض:
لا تبني عرضك على افتراض أن الطرف الآخر سيقبل “ما هو منطقي”. ربما يرفض فقط لأنه لا يحبك، أو لأنه يشعر أنك تستخف به، وقد تقدم عرضاً عادلاً ومتوازناً، وتتوقع القبول، لكن الطرف الثاني يرفضه لأنه شعر بالإهانة أو لأنه يعتقد أنك تخبِّئ ورقة أقوى.
* في العلاقات الشخصية:
لا تتوقع أن الطرف الآخر سيهدأ أو “يفكر بعقلانية” دائمًا… بعض الناس يفضلون تدمير العلاقة على أن يعترفوا بخطأ.
???? القاعدة في جملة واحدة:
الرهان على منطق الآخرين قد يكون مخاطرة… لأن الإنسان ليس دائمًا منطقيًا.
???? أمثلة تاريخية:
* الحرب العالمية الأولى (1914)
معظم الدول كانت تعتقد أن الحرب لن تندلع لأن “ذلك غير عقلاني” اقتصاديًا وسياسيًا.
لكن القادة الأوروبيين – مدفوعين بالغطرسة الوطنية والتحالفات المعقدة – دخلوا في حرب مدمرة استمرت أربع سنوات وأودت بحياة الملايين.
الرهان على أن الجميع سيحكمون بالعقل والمنطق أثبت فشله.
* غزو هتلر للاتحاد السوفيتي (1941)
كان كثير من المحللين يعتقدون أن هتلر لن يغامر بفتح جبهة شرقية وهو لم يحسم الجبهة الغربية بعد، لكن هتلر فعل ذلك مدفوعًا بإيديولوجية وتقديرات خاطئة.
هتلر لم يكن “عقلانيًا” كما توقع خصومه… وكانت العواقب كارثية للجميع.
* غزو العراق للكويت (1990)
كثير من المحللين ظنوا أن صدام حسين لن يُقدم على غزو الكويت لأنه سيكون انتحارًا سياسيًا وعسكريًا… لكنه فعل، مخالفًا كل التوقعات “العقلانية”.
طوفان حماس (2023)
سنتحدث عنه باستفاضة في حلقة قادمة إن شاء الله.
???? نصوص فكرية وفلسفية لها صلة:
* نيقولا ميكافيللي “الأمير”
يقول ميكافيللي:
“الناس بطبيعتهم يتصرفون بدافع الخوف والطمع أكثر من المنطق”.
الميكافيلية تحذر من افتراض أن الحكّام أو الشعوب سيتصرفون دائمًا وفقًا للحسابات العقلانية.
* توماس هوبز “الليفياثان”
يرى هوبز أن الإنسان في حالته الطبيعية يتحرك بدوافع أنانية، وقد يلجأ للعنف أو الفوضى، ما لم يردعه قانون أو قوة.
فكرة “العقلانية المتوقعة” لا يمكن افتراضها في غياب رادع.
* كارل فون كلاوزفيتز – “عن الحرب”
يحذر من أن الحرب ليست دائمًا امتدادًا للسياسة بعقلانية، بل هي “فعل من أفعال العنف” حيث المشاعر والانفعالات تلعب دورًا كبيرًا.
* فرانسيس بيكون – “الأوهام الأربعة”
يتحدث عن “أوهام العقل” التي تمنع الإنسان من التفكير المنطقي، مثل أوهام القبيلة والكهف والسوق والمسرح.
الإنسان غالبًا يُخدَع بعقله… فلا تراهن عليه كثيرًا.
???? وهم المنطق:
نحن نعيش في عالم نحب أن نراه منطقيًا.
نبني استراتيجياتنا على الافتراض أن الآخرين سيفكرون كما نفكر،
أن الخطر سيبتعد لأنه “غير مجدٍ”،
وأن الجنون لا يمكن أن ينتصر لأنه “لا يعقل”.
لكن العقل – كما عرفه الحكماء – ليس ضامنًا، بل احتمال.
والمصيبة أن من تراهن عليه قد لا يعرف أنه يحمل سلاحًا من خشب،
وقد يختار حرق بيته ليُثبت لك أنه لم يخَف.
في نهاية الأمر،
قد يكون الجنون خطة، والغضب مذهب،
واللاعقلانية سلوكٌ يجد مَن يُبرّره.
فاحذر أن تنام على منطقك مطمئنًا…
فالآخر لا يراك في مرآته، بل في ظنونه.
???? ولنا في قصة الذئب عبرة:
في غابة بعيدة، جلس أرنب حكيم أمام ذئب جائع.
قال الأرنب بهدوء:
“لن تأكلني، لأنك تعلم أن قتلي سيجلب غضب الدببة، وهم أصدقاء لي.”
ضحك الذئب وقال:
“أعرف ذلك. كلامك منطقي. لكنني جائع الآن… وغدًا، إن عشت، سأخشى الدببة.”
ثم التهمه.
وفي اليوم التالي، كما تنبأ الأرنب، جاءت الدببة غاضبة..
لكن الذئب لم يكن نادمًا، بل شبعانًا.
???? الخلاصة الرمزية:
لا تفترض أن خصمك سيتبع منطقك، حتى لو شرحت له العواقب جيدًا.
فالجوع، الغضب، الغرور، أو حتى الغباء… قد يسبق المنطق بخطوتين.
د. ربحي الجديلي ..
الباحث في معهد بيت الحكمة – غزة.