لا نريد العرب عربًا أكثر من فنزويلا..زهير حليم أندراوس

السؤال الذي يجِب أنْ يُطرَح بشفافيةٍ ودون مواربةٍ هو: هل التطبيع مع إسرائيل، بما في ذلك توقيع اتفاقيتيْ سلام مع مصر (1979) والأردن (1994) عاد بالفائدة على الأمّة العربيّة فرادي وجماعاتٍ ودولٍ؟ أمْ أنّه فتح الباب على مصراعيه أمام التغوّل والتوحّش والتوسّع لدى دولة الاحتلال، التي باتت لا تُخفي مطامعها في تطبيق حلم إسرائيل الكبرى، كما صرحّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو مؤخرًا؟ نتنياهو نفسه تحدث عن أنّه موكَلٌ بـ “مهمةٍ روحيّةٍ تاريخيّةٍ لتأسيس إسرائيل الكبرى” الممتدة من النيل إلى الفرات. المشروع لا يتوقف عند فلسطين، بل يشمل اقتطاع أراضٍ من مصر (سيناء)، وكلّ الأردن، ونصف سورية وكلّ لبنان، ونصف السعودية، وربع العراق، وكل الكويت. ولكي نكون على قدرٍ من الاستقامة الفكريّة نُذكِّر، هذا إنْ نفعت الذاكرة، أبناء جلدتنا من المُحيط إلى الخليج، بمقولة رئيسة الحكومة الإسرائيليّة السابقة، غولدا مائير: “سيتفاجأ العرب ذات يومٍ أنّنا أوصلنا أبناء إسرائيل إلى حكم بلادهم”.
***
الجواب على السؤال الذي طرحناه أعلاه هو أنّ الأنظمة العربيّة، التي وقعّت على اتفاقيات استسلام، وليس اتفاقات سلامٍ، وطبّعت مع إسرائيل بأوامر أمريكيّةٍ، حولّت الصراع مع الحركة الصهيونيّة الاستعماريّة، المدعومة من الإمبرياليّة العالميّة بقيادة رأس الأفعى، الولايات المُتحدّة الأمريكيّة، والرجعيّة العربيّة، التي وُلِدت من رحم قوى الاستكبار لتبقى، حوّلت الصراع من صراعٍ وجوديٍّ إلى كونه نزاعًا جغرافيًّا محدودًا بين إسرائيل والشعب الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة وغزّة، أيْ أنّ النزاع هو حول 18 بالمائة من أراضي فلسطين التاريخيّة، وهنا يستحضرنا التساؤل: منذ حوالي السنتيْن يتعرّض الشعب الفلسطينيّ لحرب إبادةٍ وتجويعٍ وتهجيرٍ، يُذبح بالبثّ الحيّ والمُباشِر، فماذا فعل العرب لوقف هذه الكارثة التي لم يشهدها التاريخ من ذي قبل؟ صفر غيرُ حافظٍ لمنزلته، وفي هذه العُجالة وَجَب توجيه الشكر للخوارزمي الذي اخترع الصفر فبات للبعض قيمةً.
***
وعندما نسأل عن الدور العربيّ في وقف حمّام الدماء الطاهرة في غزّة، لا نُطالِب، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، لا علنًا ولا سرًّا، بأنْ تُحرِّك الدول العربيّة جيوشها، التي تُستخدَم في أوقات السلم غير المنتهي للعروض العسكريّة ولقمع الشعوب، أنْ تُحارِب دفاعًا عن “قضية العرب الأولى” (!)، أيْ قضية فلسطين، بلْ ما نطلبه أنْ تتوقّف عن دعم دولة الاحتلال مباشرةً أو بشكلٍ غيرُ مُباشرٍ، فكيف نُفسِّر للأجيال القادمة وماذا سيكتب التاريخ عن هذه الأنظمة عندما سيُسجَّل وبالبنط العريض أنّها وبأوامر من واشنطن، أرسلت الأسلحة والعتاد من القواعد العسكريّة الأمريكيّة المتواجدة بكثرةٍ على أراضيها لمُساعدة جيش الاحتلال في قتل وإبادة “الإخوة الفلسطينيين”؟، حاولتُ أنْ استذكر موقفًا واحدًا مُشرِّفًا من هذه الأنظمة ولكن الصمت كان وما زال وسيبقى سيِّد الموقف، ما الذي يمنع الأنظمة المُطبِّعة من سحب السفراء من دولة الاحتلال، ولو من باب النخوة العربيّة، التي أصبحت ماركةً نادرةً في هذا الزمن الرديء.
***
سيداتي وسادتي، كيف تشعرون، هذا إذا ما زال الشعور يتواجد في معجمكم الإنسانيّ والسياسيّ، كيف تشعرون عندما تُشاهدون دولاً غيرُ عربيّةٍ أوْ إسلاميّةٍ، وفنزويلا أكبر مثالٍ، تبعد عشرات آلاف الأميال عن فلسطين، تقطع علاقاتها مع الكيان بسبب مذبحة غزّة؟ هل تحّسون بالخجل عندما تقوم دولةً في أمريكا اللاتينيّة بقطع علاقاتها مع إسرائيل وطرد سفيرها وجميع الدبلوماسيين فورًا نُصرةً لغزّة؟ أعتقد أنّكم فقدتم هذه الحاسّة مع أنّكم أكثر الناس حاجةً لها، لا نطلب منكم أنْ تكونوا عربًا أكثر من فنزويلا، ولكن مع ذلك يبقى لدينا البصيص من الأمل الممزوج بالألم، أنْ تتحرّك إنسانيتكم وتفعلوا شيئًا لوقف القتل المنهجيّ والممنهج والمخطط له لشعبٍ أعزلٍ، فعلاً صدق الشهيد غسّان كنفاني عندما قال: “جريمة قتلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر، وقتلٌ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر”.
***
نُحيطكم علمًا أنّ تقارير صحيفة (الغارديان) ومجلة (972 الإسرائيليّة)، المستندة إلى بياناتٍ عسكريّةٍ سريّةٍ، كشفت النقاب عن أنّ 83 بالمائة من ضحايا العدوان على غزة هم من المدنيين. أيْ أنّ الهدف ليس (حماس) ولا المقاومة، بل البشر أنفسهم. ومع المجازر المتواصلة، دخلت إسرائيل مرحلةً أكثر توحشًا: تجويعٌ ممنهجٌ للأطفال والنساء، حتى باتت مئات المنظمات الدوليّة والأمميّة تُطالِب بوقف سياسة التجويع التي فاقت قدرة العقل على التصور. وهذا المشهد المروّع لم يكن ليحدث لولا أنّ إسرائيل أمِنت العقوبة. هي تسير مطمئنة في ظلّ غياب المحاسبة الدوليّة، وفي ظلّ الغطاء الأمريكيّ الذي شلّ مجلس الأمن والقانون الدوليّ، علاوةً على مواصلة تزويد الكيان بالأسلحة الأكثر تقدّمًا وتطورًا، وتخاذل العرب، وها نحنُ اليوم ننتظر بدء احتلال مدينة غزّة وتهجير سُكّانها، دون أنْ ينبّس العرب ببنت شفة، أوْ بالأحرى واصلوا التزام صمت أهل الكهف.
***
العرب، بما في ذلك السلطة في رام الله المُحتلّة، أنفقوا عقودًا في سياسة “سحب الذرائع” من إسرائيل: عدم استفزازها، السكوت على جرائمها، بل التطبيع معها والتعاون الأمنيّ والاقتصاديّ. النتيجة: لم تُردَعْ إسرائيل، بل ازداد جشع وطمع هذه الدولة المارِقة، وما نراه اليوم برهانٌ قاطعٌ: التطبيع لم يحمِ أحدًا، بل شجع نتنياهو على المضي قدمًا في مشروعه الاستعماريّ، ذلك أنّ إسرائيل تقرأ كلّ صمتٍ عربيٍّ على أنّه ضوء أخضر، وكلّ خطوة تطبيعٍ على أنّها إقرار بشرعية التوسّع.
كاتبٌ من بلدة ترشيحا شمال فلسطين