لماذا يلجأ ترامب للسعودية للقاء بوتين؟

أول نتاج اللقاء الروسي الامريكي أمس الثلاثاء في الرياض اتفاق على تشكيل فريق تفاوض بين الجانبين و احياء لدور سفارتي البلدين في موسكو وواشنطن و قمة على رأس الشهر بين ترامب و بوتين ..طبعا لامجال في مثل هذه المحطات الديبلوماسية المصيرية الحديث عن صدفة في اختيار السعودية أكبر الدول العربية و الاسلامية و اكثرها تاثيرا في مسار الاستثمارات الكبرى في العالم لاحتضان هذا اللقاء الذي لا يمكن ان يكون اعتباطيا او من دون حسابات استراتيجية , بل ان بعض الملاحظين يعتبرون أن اللقاء الذي جمع بين وزير الخارجية الامريكي الوافد حديثا على الادارة الامريكية ماركو روبيو و نظيره الروسي الحيوان السياسي سرغي لافروف الذي مر عليه عقود في هذا المنصب و الذي يفترض أن يمهد الى لقاء الرئيس الامريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين يمكن أن يكون منعرجا لانهاء الحرب الروسية الاوكرانية التي تدخل عامها الرابع على التوالي و التي سبق لترامب و أعلن رغبته في وضع حد لها ,ولان الامور بخواتيمها سيتعين انتظار بعض الاجوبة عن ثمار هذه القاءات التي يبقى الزمن وحده كفيل بكشفها للرأي العام الدولي ..و لعل أول الملاحظات في هذا اللقاء الروسي الامريكي أنه تم اقصاء أحد الطرفين في هذه الحرب و هو الجانب الاوكراني و كذلك اوروبا التي وجدت نفسها معزولة و بعيدة عن الاحداث و الحال أنها كانت أحد مصادر التمويل لاوكرانيا في هذه الحرب ..لا خلاف أن انهاء الحرب الروسية الاوكرانية خطوة مهمة لتحقيق السلام و تجنيب العالم مزيد تداعيات و انعكاسات هذه الحرب ..و سيتعين الانتباه الى أن تحقيق ذلك على أرض السعودية سيجعل المملكة أمام اختبار قد يكون غير مسبوق منذ اللقاء الذي جمع قبل ثمانين عاما بين الرئيس الامريكي فرانكلين رزوفلت والملك المؤسس عبد العزيز ال سعود على متن السفينة” يو أس أس كوينسي” و سيجعل المملكة أمام استحقاق انساني و اخلاقي و قانون تاريخي قبل موعد القمة العربية و البحث عن ازاحة مظلمة طال امدها في حق الشعب الفلسطيني و تفاقمت و باتت تنذر بالاسوأ بعد حرب الابادة التي شنها الاحتلال الاسرائيلي على غزة و اهلها طوال خمسة عشرة شهرا بتواطؤ دولي و عربي مفضوح لضمان استمرار الدعم العسكري و المالي للاحتلال الذي لم يجاهر بخطته لاقامة اسرائيل الكبرى و احتلال غزة و الضفة بعد أن أقدم الرئيس ترامب على كشف خطوته لتهجير أهل غزة في خطوة منافية لكل القوانين و الاعراف الدولية ..
سيكون من غير المنطقي بل ربما من السطحية اعتبار أن البحث عن عنصر الحياد الايجابي وحده وراء اختيار المملكة العربية السعودية لاحتضان قمة تاريخية غير مسبوقة بين الرئيس الامريكي دونالد ترامب العائد الى البيت الابيض و بين نظيره الروسي فلاديمير بوتين …ولاشك ان الاستعدادات التي سبقت اللقاءات بين الجانبين الروسي و الامريكي بعد نحو شهر على تولي ادارة الرئيس ترامب مهامها ما يمكن أن يثير اكثر من نقطة استفهام في ظل تداخل الاحداث وتعقيدات المشهد الراهن في منطقة الشرق الاوسط و التحديات القائمة بعد خمسة عشرة شهرا من حرب الابادة في قطاع غزة و التوافق الحاصل بين واشنطن و تل ابيب على طي القضية الفلسطينية بغير ما يتطلع اليه الشعب الفلسطيني و بغير ما تفترضه الاسس المتعارف عليها في القانون الدولي و القانون الدولي الانساني ..
وحتى لا نستبق الاحداث سيكون من المهم التذكير بأن الرئيس ترامب الملقب برجل الصفقات كان صرح منذ تدشينه البيت الابيض أنه لن يتردد في أن تكون السعودية وجهته الاولى اذاوافقت المملكة على صفقة بقيمة ب450مليار دولار أو يزيد ولاحقا دعا ترامب في منتدى دافوس الرياض الى استثمارات بترليون دولار ..
وقد لا يكون من المفاجئ او الغريب في شيئ أن يتضاعف المبلغ مع اقتراب زيارة ترامب الى السعودية بعد الاعلان عن احتضان الرياض القمة المرتقبة بينه و بين الرئيس الروسي ..و سيكون من المهم الاشارة الى أنه بقطع البنظر عن شروط ترامب و محاولاته الظهور بمظهر التاجر الرابح دوما في عقد الصفقات فان ما سيخرج به اللقاء من نتائج قد تقود الى انهاء الحرب الروسية الاوكرانية المستمرة منذ ثلاث سنوات سيحسب الى السعودية كلاعب استراتيجي في منطقة الخليج و في منطقة الشرق الاوسط , لا سيما و ان المملكة تحتفظ بعلاقات متينة مع الطرفين الروسي و الامريكي الى جانب الطرف الصيني الذي كان له الدور في اذابة الجليد بين الرياض و طهران و عودة العلاقات بين ايران و السعودية واعادة فتح سفارتي البلدين و طي صفحة العداء المفتوح واعتباران ايران العدو الاول و الوحيد الذي يتعين الحذر منه وعزله ..
نتائج اللقاء الامريكي الروسي في المملكة تعكس أيضا تحولات محورية في العلاقات الاستراتيجية و الخارطة الدولية و الواضح أن ترامب يتعمد عزل الدول الاوروبية و تحييدها في المفاوضات بشأن الحرب الروسية الاوكرانية التي انجرفت اليها الدول الاوروبية و تحملت جزءا كبيرا من النفقات العسكرية والاعباء التي ارتبطت بهذه الحرب بما في ذلك ملف الاجئين لتجد اليوم نفسها خارج اللعبة التي انفرد بها ترامب ..و ليس من الواضح ان كان ترامب سيتجه لاحقا الى مزيد الضغط على الشريك الاوروبي في منظمة الحلف الاطلسي لدفعها الى ترفيع نفقاتها و تحمل مسؤولية أمنها بمعزل عن المظلة الامريكية التي يريدها ترامب مدفوعة الاجر مسبقا ..
اختيار المملكة العربية السعودية لاحتضان هذا اللقاء لا يمكن أن يكون بمعزل عن الحسابات التي يتقنها ترامب المعني أساسا بتعزيز ميزانيته و أرصدته البنكية التي ستعزز بدورها رصيده في استطلاعات الرأي العام الامريكي, و قد دشن عودة الدفء للعلاقات بين البيت الابيض و الكرملين بمكالمة هاتفية بين ترامب وبوتين استمرت نحو ساعة .. ومعلوم أن اوروبا يفترض انها اللقاء التقليدي بين الامريكيين و الروس و لكن ترامب اختار تغيير البوصلة و التوجه نحو السعودية وهو خيار له دلالات واشارات لا تخفى على ملاحظ و هي تتنزل في اطار استقطاب المملكة في اطار سياسة المراحل تمهيدا لما بعد لقاء ترامب بوتين و هنا مربط الفرس لان ما يريده ترامب أساسا ليس مرتبطا بلقاءه مع بوتين لانه يدرك أن الرئيس الروسي معني بانهاء الحرب و ان ترامب كان واضحا بانه لن يفرض عليه قيود بايدن والغرب و يقر له بالاحتفاظ بالاراضي الاوكرانية التي سيطر عليها الى جانب عدم انضمام أوكرانيا الى الحلف الاطلسي و تلك هي مطالب بوتين لانهاء الحرب ..ما يريده ترامب يتجاوز ذلك و لقاءه مع بوتين سيكون تمهيدا للاهم و الاهم سيكون بعد اطلاقه مبادرته لشراء غزة و كأنه يشتري طائرة خاصة جديدة في الترويج للفصل الثاني من اتفاقية ابراهام و بحث ما لم يصرح به حتى الان بشأن تطلعاته من مسار قطار التطبيع و محاولات كسب السعودية ضمن ركابه الجدد استكمالا لما سبق ..بقي أن ترامب بلغته رسالة المملكة الرافضة لتهجير الفلسطينيين و الرافضة للتطبيع المجاني على حساب الدولة الفلسطينية و بلغته رسالة مصر و الاردن الرافضة لمبادرته المجنونة لشراء غزة و التي وجدت لها ترحيبا لا حدود له لدى ناتنياهو ..الاختبار المرتقب من المملكة و من بقية الدول العربية المعنية باجهاض مشروع ترامب ليس بالامر الهين في ظل الانشقاق الحاصل بين انصار التطبيع و معارضيه و بين من يجاهر برفض التهجير و يدفع الى اعادة اعمار غزة لاحتضان أهلها و بين من يماطل على أمل التخلص مما بقي من المقاومة في القطاع ..
نعم من المهم أن تكون السعودية في صدارة المشهد وأن تكون عنصر تجميع لموقف عربي اسلامي يدفع نحو تجاوز عقد و خلافات الماضي وصراعاته الكارثية على كل الشعوب و الاوطان العربية المهددة في امنها واستقرارها و سيادتها و من المهم الا تكون القمة العربية مجرد استعراض سياسي دون أداة فعالة لتحقيق تكامل عربي لا خلاف أن السعودية بعلاقاتها المتينة مع كل الدول العربية يمكن ان تكسب هذا الرهان بعد أن باتت تحظى بثقة الاعبين الكبار في المنطقة حتى و ان كان لكل طرف مصالحه و حساباته .
لقد سبق أن اعلنت المملكة السعودية خلال قمة بيروت 2002 مبادرة عربية للسلام و في 2007 دعت قمة الرياض لاحياء مبادرة السلام مقابل الارض و منذ طوفان الاقصى في 7 أكتوبر 2023 عقدت الجامعة العربية ثلاث قمم بينها قمتان غير عادية ..و قد ان الاوان ان تخرج القمم العربية من اطار البيانات الى اطار الواقع لان خلاف ذلك يعني بكل بساطة امعان الاحتلال الاسرائيلي الصهيوني العنصري و امعان ترامب في امتهان و احتقار و الدوس على أبسط حقوق الشعوب العربية في الوجود على أرضها ..فهل يمكن أن نقرأ دروس التاريخ مرة واحدة و نجنب الاجيال القادمة الافظع …
كاتبة وصحفية تونسية