ما هو أهم من «حماس»..

تجري المفاوضات عادة بعد أن يعجز طرفا الصراع عن حسم المعركة بالطرق العسكرية، أو تأتي نتاجاً لقوة عسكرية متفوقة بهدف الاستفادة من نتائج استخدام القوة وترتيب المنطقة وفق توجهات الطرف الأقوى.
بالنظر إلى المفاوضات بين إسرائيل وحماس من الواضح أنها من النوع الثاني، حيث إسرائيل متفوقة عسكرياً بينما حماس لا تمتلك من أوراق الضغط سوى الرهائن، وحتى هذه الورقة بدلاً من أن تكون نقطة ضعف إسرائيلية حولتها إلى ذريعة لمواصلة حربها العدوانية وتحقيق المزيد من مخططات الإبادة والتهجير وإعادة هندسة القطاع ديموغرافياً، وتحقيق حلمها الأزلي في ضم الضفة الغربية وتصفية القضية الفلسطينية.
وقد استخدمت إسرائيل المفاوضات لكسب الوقت وفرض المزيد من الحقائق على الأرض، وكل يوم إضافي من المفاوضات يكلف غزة مائة شهيد وضعفهم من الجرحى وذوي الإعاقة، ومزيداً من البؤس والمعاناة للغزيين، وانهيارات إضافية في النسيج المجتمعي، حتى صار الوقت من دم حرفياً.
وكلما قدمت حماس تنازلاً جوبهت بمزيد من التعنت الإسرائيلي، وبفرض شروط جديدة لم تكن مطروحة سابقاً.
المشكلة ليس في تنازلات حماس ومرونتها.. المشكلة أساساً في شكل وآلية المفاوضات وطبيعتها.. ولو استمرت على هذه الشاكلة سنوات لن تفضي إلى نتائج.. وفي أحسن الأحوال لو تحققت لحماس كل مطالبها فهي مطالب ميدانية ومسائل يومية لأشياء كانت موجودة وبشكل أفضل قبل الحرب!
لا إسرائيل ولا أميركا ولا المجتمع الدولي يرى في حماس طرفاً سياسياً يمكن التفاوض معه بشأن القضايا السياسية الكبرى، وقضايا الحل النهائي، فموضوع المفاوضات ينحصر في خرائط إعادة الانتشار، وعدد الشاحنات، وعدد الأسرى المنوي الإفراج عنهم.. وشرط حماس الأهم وقف الحرب، وضمان عدم عودتها.
حتى لو استجابت إسرائيل لمطالب حماس بشأن الانسحابات والخرائط، من الذي سيمنعها من إعادة الاحتلال مرة ثانية؟ فالحدود الجديدة التي تطالب بها حماس لا تستطيع الدفاع عنها.
ومهما بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم يستطيع الاحتلال اعتقالهم واعتقال أضعافهم في فترة وجيزة!
ومسألة الضمانات هذه الأعجب! فقد قدمت ضمانات في الهدنة الأولى وجرى التراجع عنها!
منذ متى صرنا نعوّل على ضمانات إسرائيلية وأميركية؟.
تدرك حماس أن الرهائن العشرين المتبقين هم آخر ما تبقى لها من أوراق ضغط، وبمجرد تسليمهم لن يكون هناك أي حاجة للتفاوض معها.. وطالما هناك مفاوضات ووسطاء وكاميرات وأخبار عاجلة تظل حماس في المشهد. بعد ذلك ماذا سيحصل؟
حماس الآن أمام خيارين: إما الاستمرار في لعبة المفاوضات بكل ما يعني ذلك من استمرار الحرب واستمرار معاناة الناس واستمرار القتل والتدمير وزيادة فرص نجاح مخططات التهجير.. حتى آخر طفل غزاوي.. واستمرار «المقاومة»، ولكن بلحم ودماء أطفالنا، وبمعاناة السكان المدنيين، ولا بأس من مشاهد بطولية من حين لآخر تبثها «الجزيرة» لتؤكد أن المقاومة بخير.
الخيار الثاني: أن تتحمل المسؤولية الوطنية والأخلاقية والسياسية بصفتها الجهة التي حكمت غزة منفردة 18 سنة، وما زالت تتمسك بحكمها، وأن تفكر وتبحث عمّا يجب فعله لإيقاف العدوان، أن تفكر بالإنسان أولاً، وبمصلحة الوطن، والتحديات الخطيرة التي تهدد القضية الفلسطينية، ومستقبل الشعب الفلسطيني كله.. أن ترى بعيون غير حزبية معاناة الناس والحال المزرية التي وصلوا إليها.. وأن تدفع الثمن المطلوب.. بمعنى أن تحسم جوابها بشكل لا يقبل التأويل: إما وجودها كحزب حاكم وميليشيات مسلحة تخوض حرباً خاسرة، أو مصلحة الشعب والقضية والوطن.
لو سلمت حماس ملف المفاوضات كله إلى أي جهة أخرى مثل جامعة الدول العربية، أو إلى مصر، أو منظمة التحرير.. كما سبق أن سلمت أوراقها كلها إلى إيران، وإلى قطر، وإلى تركيا.. ووثقت بهم.. فلماذا لا تثق بغيرهم؟ في هذه الحالة تتحول المفاوضات إلى مفاوضات سياسية حول مستقبل الصراع، وتغدو مسائل الانسحابات وعدد الشاحنات وغيرها مسائل هامشية سيتم حسمها بسهولة.
تسليم الرهائن لن ينهي الحرب فوراً وبالضرورة، فإسرائيل تمارس عدوانها لأسباب أيديولوجية وتوسعية لها علاقة بطبيعتها الصهيونية العنصرية، ولا تخوضها من أجل الرهائن.. خروج حماس من المشهد لن ينهي العدوان كما يتأمل البعض، لأن إسرائيل خاضت هذه الحرب ليس بهدف القضاء على حماس، إنما لأسباب أخرى صارت واضحة للجميع.. لكن تسليم الرهائن وانسحاب حماس يسحب الذرائع من إسرائيل، ويضع نقطة بداية لإنهاء الحرب، ويفكك التحالف الدولي المؤيد لإسرائيل بعد زوال الأسباب.. وهذان شرطان أساسيان من المستحيل انطلاق أي تسوية سياسية، أو بدء إعادة الإعمار قبل تحقيقهما.
استمرار الحرب يصب في مصلحة إسرائيل فقط، ومصلحة الحكومة اليمينية بالذات، وهي الجهة الوحيدة التي تستفيد من عامل الوقت، وكلما طال أمد الحرب حققت مزيداً من المكاسب.. ولو كانت الحرب في غير صالحها لأوقفتها فوراً.. هذه معادلة بسيطة وفي غاية الوضوح.. والرد الصحيح أن نوقف الحرب بأي شكل، ونوقف نزيف الدم، فدماء أهلنا في غزة أهم من «حماس»، ومن كل الأحزاب والفصائل والمحاور الوهمية الأيديولوجيات والشعارات الكبيرة وما تسمّى الثوابت.