مخاطر الهدنة من دون وحدة وحل سياسي..هاني المصري

منذ انتهاء المرحلة الأولى من صفقة التبادل، نشهد سباقًا محمومًا بين التوصل إلى اتفاق بشأن استكمال التزامات المرحلة الأولى وتطبيق المرحلة الثانية، وهذا ما تطالب به حركة حماس، أو تمديد المرحلة الأولى، وهذا ما تسعى من أجله إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، أو تجدد الحرب الذي تفضله الحكومة الإسرائيلية، خصوصًا بنيامين نتنياهو والوزراء الأكثر تطرفًا؛ لأنهم يراهنون على قدرتهم على تحقيق أهداف الحرب، وضمان بقاء الحكومة، وتجنب سقوطها، إضافة إلى مواجهة تداعيات الحرب عليهم، بدءًا من الإخفاق التاريخي في السابع من أكتوبر، مرورًا بالإخفاق المستمر بعدم القدرة على حسمها وتحقيق أهدافها كافة.
إلى أين يمكن أن تصل المفاوضات؟ لا يمكن الجزم بذلك، فالتوصل إلى صيغة تمدد المرحلة الأولى، مع التأكيد على الربط باستحقاقات المرحلتين الثانية والثالثة، هي الأقرب للحدوث، مع أهمية رؤية العوامل والمتغيرات التي تساعد على تحقيق كل سيناريو، (تجدد الحرب أو التوصل إلى اتفاق جديد مبني على تمديد المرحلة الأولى، أو تطبيق المرحلة الثانية، أو استمرار المراوحة في المكان نفسه، كما هو حاصل منذ انتهاء المرحلة الأولى).
يمكن من دون مجازفة كبيرة استبعاد سيناريو تطبيق المرحلة الثانية؛ لأن المفاوضات الجارية التي تتمحور على تمديد المرحلة الأولى قطعت شوطًا، وهي تتركز على الصيغ المتداولة شكلًا من المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، وفعلًا من الحكومة الإسرائيلية، وهي تجاوزت مسألة تطبيق المرحلة الثانية، وهذا لم يكن ليحدث لولا الانحياز السافر من ترامب ومبعوثيه للموقف الإسرائيلي.
ويظهر ذلك ليس من خلال تجاوز الاتفاق الأصلي، والسعي لفرض مسألة الاتفاق على تمديد المرحلة الأولى فقط، وإنما من خلال دعم فرض الحصار الخانق الذي يُعدُّ جريمة حرب وشكلًا من أشكال تجدد الحرب.
إدارة ترامب أسوأ من سابقتها
أشير إلى هذا الأمر للتحذير من حمى المبالغة بإيجابية ومرونة ترامب ومبعوثيه، واختلاف الإدارة الحالية عن السابقة، خصوصًا بعد أن تخلى عن دعوته لتهجير غزة وكأنّها هي المعيار. نعم، ترامب لا يفضل الحرب، وهذا ما سمح بالتوصل إلى اتفاق، وما يمكن أن يسمح بالتوصل إلى اتفاق جديد، ولكنه يريد السلام عبر القوة؛ أي السلام الذي يحقق الأهداف الأميركية الإسرائيلية، ولا يجب اعتبار ذلك فضيلة إلا إذا ترافق مع تغيير الأهداف، وتحديدًا إذا تم الاعتراف بالمطالب والحقوق الفلسطينية. فالاعتراف مثلًا بحركة حماس إن حصل لا يكفي، خصوصًا إذا كان مقابل تغيير حماس وإيجاد حماس جديدة، من خلال وقف المقاومة عبر هدنة طويلة الأمد، فالمطلوب الاعتراف بالحقوق الفلسطينية في حدها الأدنى على الأقل المقرة بالشرعية الدولية؛ حق تقرير المصير وحق العودة وإنهاء الاحتلال والاستقلال ومحاسبة الاحتلال على جرائمه، خصوصًا حرب الإبادة والتدمير الشامل والتهجير والعقوبات الجماعية.
وما يعطي المصداقية لما سبق، أن المطالب الأميركية في العهد الجديد لم تتضمن أي استجابة للمصالح والحقوق الفلسطينية، حتى عندما فتح آدم بوهلر قناة تفاوض مع حماس، وهذا متغير مهم يجب عدم إهماله ولا المبالغة به، حيث ادعى أن حماس وافقت على هدنة طويلة والابتعاد عن السياسة ونزع السلاح، ونسي البعض هذا وركزوا على قوله إنهم أناس طيبون وليسوا شياطين على رؤوسهم قرون، وأن أميركا ليست عميلة لإسرائيل (وقام بالتراجع عن هذا التصريح بعد ردة الفعل الإسرائيلية، ومع ذلك أُعفي من مهمته ما أدى إلى انسحابه).
وتحمّل إدارة ترامب حماس مسؤولية عدم التوصل إلى اتفاق، فضلًا عما أدلى به ويتكوف في الآونة الأخيرة من تصريحات منحازة بالغة الدلالة بشأن كون حماس بوجهين داخل المفاوضات وخارجها، وتهديدها بتحديد سقف زمني لانتهاء المفاوضات، وإلا ستدعم واشنطن ما تستعد حكومة تل أبيب القيام به من استئناف الحرب.
وعلى الرغم من نفي حماس لما صرح به بوهلر فيما يتعلق بابتعادها عن السياسة ونزع السلاح، فإنها أكدت أنها قدمت عرضًا بالتوصل إلى هدنة طويلة تستمر 5-10 سنوات وربما أكثر، وأبدت استعدادها كما جاء في تصريحات منسوبة لقيادة منها لتقديم كل الضمانات المطلوبة للالتزام بمتطلبات استمرار الهدنة، بما في ذلك إشراف على التنفيذ من دول صديقة لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وعدم تدريب وتسليح قوات النخبة، وإيجاد صيغة لتسليم الأسلحة الصاروخية والهاونات.
تساؤلات مشروعة
طرحت مسألة الهدنة طويلة الأمد تساؤلات كبيرة، في ظل وجود استعمار استيطاني لا يريد أي تسوية ومن أدواته الاحتلال والتطهير العرقي والتهجير والضم ومن فصيل وحده ومن دون ربطها بوقف مخطط تصفية القضية الفلسطينية، وخصوصًا فيما يتعلق بضم الضفة ولا بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، أمر خطير جدًا .
صحيح أن الشيخ الشهيد أحمد ياسين، رئيس حماس ومؤسسها، طرح فكرة الهدنة طويلة الأمد ولكن مقابل إقامة دولة فلسطينية على حدود 67، وكرر ذلك من بعده مختلف القادة والناطقين باسم حماس، ولكن ذلك يختلف عما يطرح الآن كونه يُطرح مقابل وقف الحرب والانسحاب من قطاع غزة والإعمار وبقاء حماس ولو بصيغة جديدة.
أول التساؤلات: ما مصير المقاومة في ظل الهدنة طويلة الأمد؟ والمقصود ليس المقاومة المسلحة في قطاع غزة فقط، وإنما المقاومة المسلحة في الضفة الغربية وفي أي مكان، فإسرائيل لن توافق على اقتصار التزام حماس في قطاع غزة بالهدنة، بينما تمارس في الضفة الغربية المقاومة المسلحة، حتى لو أصبح هناك حماس جديدة بثوب جديد (حزب سياسي جديد)، وهذا تحدي كبير يفتح الطريق لمناقشة مصير المقاومة المسلحة في هذه المرحلة .
ثاني التساؤلات: ما مصير السلطة في قطاع غزة، وهل سيقام حكم ذاتي في القطاع تحت وصاية عربية ودولية، منفصل تمامًا عن الضفة الغربية ما يكرس الانفصال، أم يكون هناك نوع من الصلة الشكلية بين القطاع وبين المعازل الآهلة بالسكان في الضفة التي يخطط الاحتلال لاستكمال قيامها بعد ضم مساحات واسعة من الضفة؟
الاحتلال كما عرف عنه يفضل الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد ممكن من السكان. ولا يتصور أحد أن دولة الاحتلال ومن ورائها إدارة ترامب ستسمح عبر المفاوضات بقيام دولة ذات سيادة في الضفة والقطاع أو في القطاع وحده، هذا يحدث إذا أرغمت على ذلك.
ثالث التساؤلات: ما مصير وحدة القضية والأرض والشعب ووحدانية التمثيل التي تمثلها منظمة التحرير، وما مصير الوحدة الوطنية التي ستتمزق إلى مزيد من الأشلاء إذا تم التوصل إلى هدنة طويلة الأمد من فصيل ومن دون اتفاق شامل يتضمن إقامة دولة فلسطينية؟
رابع التساؤلات: ما مصير مبادرة القمة العربية التي حازت تأييد العالم تقريبًا؟ وهذه المبادرة مبنية على سلسلة من الأركان، منها ما يتعلق بوقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي وتبادل الأسرى، ومنها ما يتعلق بتطبيق الخطة المصرية للتعافي وإعادة الإعمار، ومنها يتعلق بعودة السلطة إلى قطاع غزة بعد فترة انتقالية، وبإقامة دولة فلسطينية.
الوحدة الوحدة قبل خراب البصرة
نعم، تتحمل حماس قدرًا من المسؤولية عن عدم تحقيق الوحدة؛ لأنها فضلت دائمًا احتفاظها بالسلطة في غزة على كل شيء آخر، ولم تعط الاهتمام المركزي اللازم لهدف إنهاء الاحتلال والاستقلال، ، ولكنها لا تتحمل وحدها هذه المسؤولية، بل يتحمل الرئيس محمود عباس بحكم الشرعية والإمكانات والصلاحيات المسؤولية الأولى والأكبر؛ لأنه أغلق كل الإمكانيات لتحقيق الشراكة، سواء من خلال التوافق الوطني، أو من خلال الانتخابات، مستندًا في ذلك إلى ثقل فتح والسلطة والمنظمة والشرعية، وهو “يريد وحدة” لا تمس سلطاته المطلقة وتحكمه في القرار، وهذا لا يحقق الوحدة، بل يكرس الهيمنة والاحتكار والتفرد.
تحديات وجودية وفرص قليلة
ندرك جيدًا أهمية وتاريخية ما حدث منذ طوفان الأقصى وحتى الآن، وأنه جاء ردة فعل، ولكن ما انتهى إليه كارثة وبطولة وتحديات جسيمة ووجودية، وفرص قليلة، والدليل القاطع على ذلك أن الخيارات المطروحة أمام الفلسطينيين الآن، وعلى حماس تحديدًا، محدودة جدًا، فالتفاوض يدور على عودة الأمور إلى ما كانت عليه، وعلى منع التهجير والتجويع والتعطيش وتجدد حرب الإبادة، و مطلوب من حماس أن تستسلم أو تسلم كل شيء بالتدريج أو مرة واحدة لسلطة لا تؤمن بالوحدة والشراكة ولا تبادر إلى ذلك فهي تنظر أن تسقط المكاسب في حضنها بدون مجهود حقيقي ولا رؤية شاملة، أو تنزع سلاحها وتنقذ رأسها بمغادرة القطاع، أو تبقى ولكن بثوب جديد ومن دون مقاومة، وفي ظل اتفاق تهدئة طويلة الأمد، بعد أن تفرج عن الأسرى وتوفر الأمن في القطاع لأنها سلطة الأمر الواقع التي لا بديل لها، على الأقل لفترة طويلة، أو تجدد حرب الإبادة بشراكة أميركية أكبر من السابق.
وبهذا الصدد لا معنى للقول ماذا ستحقق دولة الاحتلال من استئناف الحرب؛ لأن لديها أهدافًا لم تتحقق تنتظر فرصة للتحقيق، وتتعلق باستكمال الإبادة والتهجير، والقضاء على المقاومة واطلاق سراح الأسرى وتدمير قدرات حماس الحكومية وإعادة احتلال القطاع واستيطانه وضمه أو مساحات منه وإذا حصلت على ضوء أخضر أميركي لن تتردد كثيرًا بشن الحرب.
نعم، هناك عوامل تعوق تجدد الحرب، منها أن الإدارة الأميركية لا تفضلها؛ لأن لها أولويات أخرى في المنطقة تجعلها بحاجة إلى الاستقرار لتحقيق أكبر قدر من الاستثمار والأرباح، وأن جيش الاحتلال مستنزف، لدرجة أن 50% من الاحتياط لا يلبون الدعوة للالتحاق بالجيش بعد أن كانت نسبة المستجيبين في بداية الحرب أكثر من 90%. كما أن الرأي العام الإسرائيلي في غالبيته يفضل إطلاق سراح الأسرى ووقف الحرب الآن، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
وهناك عامل مهم جدًا، وهو أن الشعب الفلسطيني صامد رغم الخسائر الفادحة والمقاومة مستعدة لمواصلة الكفاح وتكبيد قوات الاحتلال مزيد من الخسائر، وهذا عامل له تأثيرات إقليمية ودولية متعددة، منها ما يتعلق بتجدد جبهة الإسناد اليمنية، وأن الأوضاع قابلة للانهيار في لبنان وسوريا والعراق، وحتى بمواجهة مع إسرائيل من مصر والأردن.
كل ما سبق يجعل سيناريو التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب هو الأقوى، ولكن لا يجب عدم استبعاد سيناريو تجدد الحرب كليًا، وخصوصًا أنه بدأ يطل برأسه من خلال الحصار الخانق وعمليات القصف وإطلاق النار التي تؤدي إلى سقوط عدد من الشهداء يوميًا من الفلسطينيين بسبب “الخروقات الإسرائيلية”.
كان ولا يزال هناك خيار واحد يقلل المخاطر والتحديات والخسائر ويزيد الفرص، وهو وحدة الفلسطينيين في مواجهة المخاطر الوجودية المشتركة، فكان من الأجدى (ولا يزال من الضروري تشكيلها) تشكيل حكومة وفاق وطني على أساس برنامج وطني واقعي، ولها مرجعية وطنية ممثلة بمنظمة التحرير الواحدة والموحدة، إضافة إلى تشكيل وفد فلسطيني واحد للتفاوض لا بشأن الحرب وتداعياتها فقط، وإنما بربط ذلك بالأفق السياسي وإنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال، وفي هذه الحالة تكون مسألة المقاومة وأشكال النضال والهدنة والأفق السياسي جزء من رؤية وطنية شاملة وخاضعة لإستراتيجية وقيادة واحدة.
مقايضة بين الضفة وغزةط
من الخطورة بمكان بقاء الانقسام وتعميقه وتعميمه، كما لاحظنا في ردة الفعل الغاضبة وغير العقلانية، بل الغبية، من القيادة الرسمية على فتح قناة تفاوض أميركي حمساوي، فهي بدلا من توظيف التفاوض الحمساوي الأمريكي لإسقاط الفيتو الامريكي الاسرائيلي على الوحدة الوطنية، وجدنا الخشية من تجاوز القيادة إذا أدى إلى اعتراف أميركي بحماس يقضي على وحدانية التمثيل، وحتى لو لم تصل الأمور فورًا إلى هذا الحد، فإن التوصل إلى اتفاق بشأن غزة مفصولة عن بقية القضايا، وعما يجري في الضفة كأنّه سيكون نوعًا من المقايضة بين الضفة وغزة من دون حرية واستقلال حقيقي في غزة؛ أي نكون أمام ضياع القضية الفلسطينية، وهذا أمر صعب أن توافق عليه حماس كونها لو فعلت تفضل بقائها على القضية التي تناضل من أجلها.
هل يسدل الستار على الحركة الوطنية الفلسطينية؟
هل هناك بصيص من الأمل قبل أن يقع الفأس بالرأس، أم أن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة بمختلف مكوناتها وصلت إلى فصلها الأخير، كما يدل على ذلك أكثر من أي شيء آخر أن شبح الوصاية والبدائل يطل برأسه بقوة، كما يظهر في استبعاد الدولة الفلسطينية من طاولة المفاوضات، واستبعاد المشاركة الفلسطينية مرات عدة عن لقاءات وقمم تبحث المسألة الفلسطينية، ومن بحث تشكيلات جديدة تعمق الفصل بين الضفة وغزة وتقطع الطريق على اقامة دولة فلسطينية، وهذا سيحدث إن لم يحدث شيء ايجابي مفاجئ في اللحظات الأخيرة، ولكنه على فداحته سيفتح الطريق لإطلاق حركة وطنية جديدة قادرة على استكمال أو تحقيق ما لم تحققه الحركة السابقة، فهناك الشعب الفلسطيني شعب الجبارين مصمم على استعادة حقوقه والنهوض من وسط الرماد كما فعل دوما منذ أكثر من 100 عام حتى الآن، وما دام كذلك فإن راية كفاحه ستبقى مرفوعة.