اخبار

مقال مؤجل وله بقية..

مقال مؤجل وله بقية..

2025 Apr,28

وصل وضاح إلى رام الله في منتصف تسعينيات القرن الماضي بصفته خبيرا دوليا في مجاله، الطفولة، وبسيرة ذاتية غنية، لفترة زمنية من ثلاثة أشهر جرى تمديدها لفترة ثانية بناء على تقييمات عمله "الممتازة"، كنت أعرف أنه اتخذ قراره بالبقاء في البلاد، وهذا ما حدث.

الوزارة التي استقبلته خبيرا موفدا عبر الأمم المتحدة واستفادت من خبرته، لدورتين متتاليتين، لم تمنحه أي حقوق حين قرر مواصلة العمل فيها، ديوان الموظفين منحه رتبة وظيفية متدنية لم يكن راتبها كافيا لتغطية معيشته، لكنه كعادته تقبل الأمر بهدوء معتبرا أن فكرة العودة أكثر أهمية من الأمان الوظيفي، وأن الأشياء ستتحسن، أقتبس أقواله.
عاش "مخالفا" دون هوية أو أي وثائق عدة سنوات، مهددا في كل لحظة بالترحيل، لم يغادر حدود المدينة المحاطة بحواجز الاحتلال ونجا من المداهمات والحواجز الطيارة، لكنه استطاع تحويل الأمر إلى سلسلة لا متناهية من الطرائف.
عندما نجحت محاولات منحه رقما وطنيا، محاولات استمرت ما يقارب خمس سنوات، حمل الهوية الخضراء وقصد كل الحواجز في محيط رام الله وصولا إلى نابلس شمالا والخليل جنوبا حيث ولد في "عين سارة".
لم تكن لديه مشكلة في علاقته مع الفصائل، التحق مع قواعد الفدائيين في الأردن عندما كان في الحادية عشرة، بعد أن تسلل من البيت واختفى عن نظر العائلة لثلاث سنوات قضاها في معسكرات الأشبال التي نظمها الشهيد أبو علي إياد، الذي كان يحلم بتنشئة جيل "إسبرطي" من الأشبال الفلسطينيين، أظن أن تلك الفترة بقيت عالقة بقوة في ذاكرته.
بعد سنتين من اختفائه التقيته في جبل التاج شرقي عمان، كانت مجموعتهم قد وصلت في الليل واتخذت موقعا لها خلف المدرسة حيث كنت أدرس، لمحته من نافذة الصف كان يقف بملابس كاكي أخضر وينظر نحو نوافذ الصفوف بحثا عني، لم يكن قد رآني بعد، استحضرت سببا للخروج من الحصة، كنت خائفا من اختفائه من جديد وكانت الاستراحة لم تحن بعد، كانت حصة في بلاغة اللغة ولم أكن أحبها على أي حال.
سنذهب إلى الكافتيريا المنفصلة عن المدرسة، وسيبدو مختلفا لكنه سيعطيني علبة سجائر وثلاثة دنانير.
وسيواصل ذلك طوال عسكرة مجموعتهم في الموقع.
طلب مني ألا أخبر أحدا، لكنني أخبرت أمي، كان ذلك بمثابة إعادة الحياة لها، قلت، إن هناك من التقى بالصدفة وضاح وإنه بصحة جيدة. وهو ما أخبرت به والدي عندما حقق معي حول المعلومة.
لا أذكر التاريخ بالضبط عندما توجهت للموقع وكان خاليا تماما.
بعد الأحداث القاسية بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية في أحراش جرش وعجلون مطلع السبعينيات، التجأ مع ابن عمنا نزار رفيقه في المغامرة إلى مخيم الكرامة، هبطا من عجلون سيرا على الأقدام حتى وصلا بقايا منزلنا هناك، إلى قطعة أرض زراعية نملكها قريبا من نهر الأردن، تحديدا إلى كهف صغير تغطي مدخله شجرة بنسيان كريمة، كان الكهف غرفة ألعابنا وكاتم أسرارنا في الطفولة، الحقيقة أنهما وصلا هناك بسلاحهما وذخائرهما، ولدين لم يتجاوزا الرابعة عشرة.
كانت الفكرة التي استقرت في مخيلة الولدين الوصول إلى جدتي عائشة في مخيم العروب بعد تسللهما عبر "المخاضة"، ولكن دورية يقودها ضابط أردني شاب أحبطت الفكرة تماما، عمليا أنقذتهما من القتل، تتبع الضابط آثارهما حتى مدخل الكهف، لم يقبض عليهما، ولكنه أبلغ المزارع الذي يرعى الأرض أن هناك متسللين في المنطقة.
سيقود والدي بعد أن أبلغه المزارع الأمر عملية إنقاذ مركبة للولدين.
هكذا عاد وضاح إلى البيت بعد اختفاء ثلاث سنوات، وقف في الممر طويلا أشقر معفرا بتراب الكهف وعلى شعره أوراق شجرة البنسيان.
صبيحة اليوم التالي استعاد مكانه على مائدة الإفطار وواصل حياته كما لو أنه لم يغادر البيت لحظة واحدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى