من بيروت إلى غزة، مقاربة سريعة..

أسباب عديدة تستدعي إجراء مقاربة «مكثّفة» بين اجتياح بيروت 82، وحرب الإبادة على غزة، أهمها محاولة التوافق على مفهوم التضحية في صفوف المدنيين، إذ تجري محاولات عديدة لتبرير وتقبّل فكرة سقوط أعداد هائلة من الضحايا في حرب غزة، وفي أي أعمال مقاومة.. علماً أن تجارب النصال السابقة ليست نماذج مقدسة يجب محاكاتها حرفياً، ففيها جوانب إيجابية وأخرى سلبية، لذا فهي للتعلم وأخذ العبر.
وقبل ذلك لنحاول تحديد أهم سمات معركة اجتياح بيروت، ومن ثم استعراض سمات حرب غزة، والسياقات التاريخية والسياسية في الحالتين.
في السياق التاريخي والعسكري كانت معركة بيروت دفاعية، فقد بادرت إسرائيل بالهجوم، بحجة محاولة اغتيال سفيرها في لندن، ولم يكن أمام الثورة الفلسطينية من خيار سوى المقاومة والدفاع عن وجودها، وقد زجت بكامل قوتها العسكرية في مواجهة مباشرة مع جيش الاحتلال الذي هاجم بنحو مائة ألف جندي ومئات الدبابات وبكامل قوته الصاروخية والجوية على مدى ثلاثة أشهر متصلة.
في تلك المواجهة، خاض المقاتلون الفلسطينيون الحرب بزيّهم العسكري وبأسلحتهم البسيطة، وظلت القيادة العسكرية والسياسية في قلب الميدان، وبين الجنود، وفي الشوارع، وظهروا علانية بين الجماهير وأمام وسائل الإعلام، وكان ياسر عرفات يبث بشكل شبه يومي رسائل صوتية ومكتوبة للسكان وللقادة والزعماء العرب ولدول العالم.
وكانت قيادة الثورة قد استعدت لتحصين الجبهة الداخلية وتأمين مستلزمات الحياة للمدنيين، فكانت مخابز المنظمة توزع الخبز مجاناً على سكان بيروت ودون تمييز، ولم يحصل انقطاع في توفر المؤونة والمياه بشكل خطير، ولم يضطر السكان للنزوح إلى الخيام، رغم شدة القصف الجوي والمدفعي.
واقتصرت المواجهات على «الجيشين» المتقاتلين، وكان جيش الاحتلال يستهدف الأماكن والمباني المدنية التي يعتقد بوجود مقاتلين أو قيادات متحصنة فيها، ما أدى إلى استشهاد وإصابة عدد كبير من المدنيين، وقد بلغت مجمل الخسائر البشرية من 17 إلى 19 ألف شهيد أغلبيتهم من العسكريين. (هناك تقديرات أكبر، وقد اختلفت الأرقام لعدم وجود إحصاءات رسمية).
توقف القتال بخروج قوات الثورة من بيروت مطلع أيلول 1982، وقد خسرت إسرائيل 820 قتيلاً بحسب البيانات الفلسطينية (370 قتيلاً بحسب البيانات الإسرائيلية).
انتهت الحرب بخروج قوات الثورة من لبنان، وعقد مؤتمر قمة فاس (الذي مهد لطرح مبادرة السلام العربية)، ثم الانشقاق (1983)، وحرب المخيمات (1985 – 1987)، ومرور خمس سنوات عجاف تمكنت منظمة التحرير من تجاوزها بصعوبة ولم ينقذها سوى اندلاع الانتفاضة في نهاية 1987.
هذا عرض سريع ومكثف، ينقصه الكثير من النقاط المهمة والخلافية، لكن ما يعنينا هنا العودة إلى تعريف مفهوم التضحية والخسائر المدنية وتوريط الشعب في الحرب.
في حرب غزة استغلت إسرائيل هجمات 7 أكتوبر، وعملية بهذا الحجم ليست شكلاً من أشكال المقاومة المعروفة، لا المقاومة الشعبية ولا حتى المسلحة (ضمن الحالة الفلسطينية)، بقدر ما هي إعلان، أو استدعاء حرب. فبدأت إسرائيل عدوانها، وبهجمة غير مسبوقة في حدتها وهمجيتها وحجم الدمار وأعداد الضحايا.
تحولت المقاومة إلى وضعية الدفاع، وتميز نهجها بالجمع بين ثلاثة تكتيكات: الصواريخ، والاشتباكات المباشرة، واستخدام الأنفاق. وقد أظهرت شجاعة عالية، واستبسلت في التحامها مع العدو وجهاً لوجه.
واستغلت إسرائيل ضخامة الدعاية التي أثيرت حول الأنفاق، والتهويل في فاعليتها العسكرية، والزعم أنها كابوس إسرائيل، فطالما أنها مكمن قوة «حماس»، فلا بد من تدميرها. وتدميرها يحتاج قنابل ارتجاجية شديدة الانفجار، الأمر الذي استغلته إسرائيل أبشع استغلال، فدمرت كل شيء!
وكانت قيادات المقاومة (العسكرية والسياسية) متحصنة في أماكن سرية، ولم يظهر منهم أحد لمخاطبة الجمهور، باستثناء الناطق العسكري الذي تركزت خطاباته على شرح أوضاع الأسرى الإسرائيليين وتحريض أهاليهم على إسقاط حكومة نتنياهو.
تبين أنه لا الأنفاق ولا الصواريخ أمّنت أي نوع من الحماية للمدنيين، لم تحمهم من القتل، ولا من الأسر، ولم تحمِ بيوتهم من التدمير، ولم تمنع عمليات التشريد والنزوح والإذلال على الحواجز، ولم تمنع جيش الاحتلال من التقدم والسيطرة وتنفيذ مخططاته. وفي الواقع، حتى أداء المقاومين البطولي ورغم أنه كبد جيش الاحتلال خسائر كبيرة، إلا أنه لم يمنعه من تحقيق أهدافه، ومن مواصلة عملياته، بل إن لجوء «حماس» للقوة العسكرية كان ذريعة لإعادة احتلال غزة من جديد.
ومن البداية، كان يفترض بـ»حماس» أن تدرك أن قطاع غزة لا يصلح لخوض حرب عصابات؛ مساحته صغيرة جداً مقارنة بمسارح الحروب، وكثافة سكانه مرتفعة للغاية، ولا توجد به تضاريس تتيح للمقاتلين الكر والفر.. والمساحات المفتوحة فيه صغيرة جداً، ومكشوفة للعدو.
وهذه الأنفاق ومنصات الصواريخ ستكون بالضرورة موزعة بين البيوت وبالقرب من المنشآت المدنية، وعندما تحدث الاشتباكات ستحدث في الشوارع والأزقة، وعندنا تنفجر الألغام ستنفجر بين البيوت، وفي جميع الحالات سيتم تعريض السكان للخطر، وستكون حياتهم مهددة. سيما أن العدو الإسرائيلي لا يرحم، ولا يراعي المدنيين، ولا يحترم القوانين الدولية، ومستعد للبطش بأقسى قوة، وهذا ما حدث فعلاً.
فإذا كانت قاعدة المقاومة هي قطاع غزة، فهل يستطيع القطاع تحمّل مثل هذه الحرب، مع العلم المسبق أنه لن يتلقى دعماً لوجستياً من دول الجوار، ولن يجد حليفاً دولياً يسنده ويدعمه؟
كان على «حماس» تبنّي إستراتيجيات أخرى في المقاومة، إستراتيجيات تتلاءم مع طبيعة المنطقة، وتتناسب مع قدرات الشعب وظروفه الصعبة وإمكانياته المحدودة، وتتوافق مع المعادلات السياسية القائمة، أو تكون قادرة على تخطيها وكسرها. وهذه ليست مسؤولية «حماس» وحدها، فالمقاومة مسؤولية وواجب الشعب الفلسطيني بأكمله.
من يُجر مقارنة بين «حرب» غزة وأي مواجهة سابقة لا يرى (أو يتجاهل) حجم الخسائر التي ألمت بالقطاع، فلم يسبق طوال تاريخ الصراع أن تعرضنا لهذا الحجم من التدمير، ولم يسبق أن خسرنا نحو مائتي ألف إنسان (بين شهيد وجريح) في معركة واحدة.
ولا يدرك الفرق الجوهري بين أن تضحي المقاومة بنفسها لبقاء الشعب ومن أجل القضية، وبين أن تضحي المقاومة بالشعب وبالقضية من أجل بقائها.. فأن يضحي المقاتل أو القائد بنفسه هذا أمر مشروع، أما أن يورط الشعب بحرب فوق طاقته ويتركه لمصيره في مواجهة آلة الدمار (حتى دون أن يوفر له أبسط احتياجاته) فتلك مسألة أخرى.
وربما لا يرى النتائج السياسية الكارثية للمواجهة، فالجبهة الداخلية تقريباً انهارت، والقضية في أخطر مراحلها، وخطر التهجير بات أقرب، والقدرة على الصمود والمواصلة باتت موضع شك، وإسرائيل تمكنت من تغيير مشهد الشرق الأوسط.
التحدي أن نضع «الطوفان» في سياق العملية النضالية الوطنية المتراكمة منذ قرن، وأن نبني عليه، وهذه ليست مضمونة، بل إن مستقبل المقاومة نفسها بات موضع تساؤل.