غزة… من الثراء والحياة إلى المجاعة والدمار..أسماء مصطفى

في عقود سابقة، كان سكان غزة يُضرب بهم المثل في الثراء والعيش الكريم. لم تكن غزة منطقة فقيرة كما يتصورها العالم اليوم، بل كانت تضم طبقة متوسطة واسعة، وطبقة غنية قوية، تسهم في الحركة الاقتصادية بشكل فعال. كان الغزيون يمتلكون العقارات، الأراضي الزراعية، المشاريع التجارية، والمصانع، مما جعل مستوى المعيشة فيها أعلى من مستويات المعيشة في كثير من الدول المجاورة. وقد انعكس ذلك على الحياة اليومية، حيث كانت العائلات تنعم بالاستقرار المادي والرفاهية.
لم تكن غزة متأخرة يومًا عن ركب التطور. فقد شهدت نهضة معمارية سريعة، وارتفعت فيها الأبراج والمجمعات السكنية الحديثة، التي صُممت وفق أرقى المعايير الهندسية. كما لحقت غزة مبكرًا بركب التكنولوجيا، حيث انتشرت شركات الاتصالات، وخدمات الإنترنت، والمحال التجارية التي تعرض أحدث الأجهزة الإلكترونية. هذا التطور كان أسرع مما شهدته بعض الدول المحيطة، ما جعل غزة بيئة نابضة بالحياة ومتقدمة رغم مساحتها الصغيرة.
ويتميز شعب غزة بعشقه للعلم والثقافة. فقد امتلأت مدارسها وجامعاتها بالطلاب الذين حصدوا المراتب الأولى عربيًا ودوليًا. الثقافة لم تكن حكرًا على النخبة، بل كانت جزءًا من حياة الناس اليومية؛ المكتبات، النوادي الثقافية، والأمسيات الأدبية كانت مشهدًا مألوفًا. أما الأناقة، فكانت عنوانًا للشباب والنساء في غزة، حيث اشتهروا بحسّ جمالي رفيع جعلهم يواكبون أحدث خطوط الموضة مع الحفاظ على هويتهم الفلسطينية والعربية الأصيلة. ومن أجمل ما ميّز غزة على مر السنين روح الكرم والشهامة. كان الغزيون يستقبلون ضيوفهم بترحاب، يفتحون بيوتهم وقلبهم لكل عابر سبيل. الكرم لم يكن رفاهية بل جزءًا من الهوية الاجتماعية، حيث يتسابق الناس في العطاء، سواء في المناسبات السعيدة أو في الشدائد. وقد جعل ذلك العالم يضرب المثل بغزة في الكرم والشهامة.
لم تكن غزة منعزلة عن العالم، بل كانت دائمًا في قلب قضاياه. فقد أظهرت تضامنًا واسعًا مع أي شعب يتعرض للظلم، من إفريقيا إلى آسيا وأمريكا اللاتينية. كانت أصوات الغزيين تتعالى في المظاهرات المؤيدة لحقوق الشعوب، وكانوا يمدّون يد العون بما استطاعوا، ليؤكدوا أن العدالة قيمة إنسانية مشتركة لا تعرف الحدود.
كانت غزة من أهم المراكز الزراعية في فلسطين. أرضها الخصبة أنتجت محاصيل غنية صدّرتها للعالم. لم تقتصر على تلبية حاجة سكانها، بل كانت تُرسل السمك الطازج للضفة، وتصدّر البندورة والفراولة والحمضيات والعنب حتى لأمريكا والخليج. هذا الإنتاج الزراعي جعل غزة شريانًا اقتصاديًا يغذي المنطقة بأكملها.
من يعرف غزة يعرف أن مطبخها من أزكى المطابخ. المأكولات البحرية، الكبب، المقلوبة، المفتول، الحلويات الشرقية… كلها أطباق لا تُنسى. مطاعم غزة كانت من أنظف وأجود المطاعم في المنطقة، تجذب الزوار من كل مكان. الجودة لم تكن في الطعم فقط، بل في النظافة والخدمة وحفاوة الاستقبال.
غزة لم تكن مجرد أرض زراعية فحسب، بل احتضنت قطاعًا صناعيًا متنوعًا وقويًا. مصانع الغذاء، المشروبات، الحلويات، البهارات، القهوة، النسيج والملابس، مواد البناء، والأثاث، كلها شكّلت عصب الاقتصاد. هذا القطاع وفر آلاف فرص العمل، وصدّر منتجاته إلى أسواق محلية وإقليمية، ليؤكد أن غزة قادرة على المنافسة والإبداع.
ورغم الحصار المفروض على قطاع غزة لعقود طويلة، إلا أنها كانت تزخر بأحدث السيارات التي دخلت إليها عبر المعابر. كانت شوارعها تمتلئ بسيارات حديثة من طرازات عالمية، ما منحها مظهرًا حضريًا لا يقل عن أي مدينة كبرى. امتلاك سيارة لم يكن أمرًا استثنائيًا، بل شائعًا بين فئات المجتمع.
أحد أجمل ملامح غزة أن الجوع لم يكن موجودًا. الأغنياء والفقراء عاشوا معًا في نسيج واحد، والبيوت كانت تتقاسم الطعام فيما بينها. أي بيت فيه فائض يوزع على الجيران، وأي محتاج يجد من يمد له اليد. التضامن الاجتماعي جعل غزة نموذجًا للتكافل الإنساني والوطني.
كل موسم كان يحمل معه فرحة. البلح والزيت والزيتون والحمضيات والتين والعنب… كل هذه الخيرات كانت تصل لكل بيت. لم يكن هناك موسم يمر دون أن يمتلئ السوق بالثمار، ودون أن تُقسم الخيرات بين الجميع. غزة كانت لوحة خضراء، وموائدها عامرة بما تجود به الأرض.
غزة لم تكن خيامًا أو بيوتًا متهالكة كما يحاول الإعلام تصويرها. كانت تضم بيوتًا وفللًا وقصورًا تضاهي أجمل بيوت العالم. التصميمات الحديثة، الأثاث الفاخر، والحدائق الغنّاء جعلت أحياء غزة تضاهي أرقى المدن. كانت العمارة انعكاسًا لذوق سكانها وحرصهم على الجمال.
كل ما سبق لم يكن سوى ملامح من غزة التي كانت جنة صغيرة على الأرض. مدينة تضج بالحياة، تعانق البحر وتتنفس الأمل رغم كل ما يحيط بها. كانت مليئة بالحيوية، بالفرح، وبقصص النجاح التي لا تنتهي.
لكن كل هذه الصورة المشرقة تحوّلت اليوم إلى نقيضها. أعلنت غزة رسميًا دخول مرحلة المجاعة، لتصبح خامس مكان في العالم يواجه هذا المصير القاسي. لم يعد هناك فرق بين الغني والفقير؛ الكل محروم من لقمة الطعام. الجوع ينهش البطون، والموت يقترب من كل بيت، وسط دمار شامل وخوف لا يوصف. غزة التي كانت مضرب المثل بالكرم، أصبحت مضرب المثل بالدمار والجوع والموت. غزة التي كانت تُصدّر الخير للعالم، باتت محرومة من أبسط حقوق الحياة. غزة التي لم تعرف الجوع يومًا، اليوم تُعلن فيها المجاعة.
ورغم ذلك، تبقى غزة حكاية لا تنتهي. مدينة ترفض أن يُكتب فصلها الأخير بالموت فقط، بل تسعى أن تُخلّد في الذاكرة كرمزٍ للصمود والإنسانية والأمل.